مقالات

إرتدادات الأزمة السورية: لبنان ضحية جانبية أم ساحة اشتباك؟

إرتدادات الأزمة السورية: لبنان ضحية جانبية أم ساحة اشتباك؟

منذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، تحوّل التداخل السياسي والطائفي بين لبنان وسوريا إلى هاجس دائم، ليس فقط بسبب الجوار الجغرافي والتداخل الديموغرافي، بل نتيجة العلاقات المعقدة التي تربط عدداً من الأحزاب اللبنانية بالفصائل السورية المتنازعة. أنتج هذا الواقع بيئة لبنانية شديدة الهشاشة، جعلت البلد عرضة لارتدادات ما يجري في الداخل السوري، خصوصاً في ظل تجدد التوترات الطائفية التي لا تزال تتفجر على نحو متقطع في مناطق مختلفة من سوريا، لا سيما في الجنوب.

 

لم يعد التوازن اللبناني الدقيق، المبني على توزيع طائفي هش، قادراً على امتصاص الصدمات الإقليمية، وخصوصاً تلك التي تنشأ من العمق السوري. فكل تصعيد مذهبي هناك، يعكس فوراً انقساماً سياسياً حاداً في الداخل اللبناني، تتداخل فيه الحسابات المحلية مع الأجندات الخارجية. وبذلك يصبح لبنان أكثر من متلقٍّ لتداعيات الأزمة السورية، بل شريك متورط في دينامياتها، بوعي أو من دونه، مما يزيد من احتمال انفجار داخلي له أبعاده الطائفية والسياسية الخطيرة.

 

ويُعدّ الاستقطاب السني-الشيعي أحد أبرز المخاطر الماثلة، خصوصاً في المناطق المختلطة أو المتاخمة، مثل طرابلس والبقاع وصيدا. فهذه المناطق شهدت في السابق صدامات ذات طابع مذهبي، ومن غير المستبعد أن تعود لتشكّل ساحات تصفية حسابات إقليمية، خصوصاً إذا استُخدم الوجود الكثيف للاجئين السوريين– وغالبيتهم من السنة– ورقة ضغط داخلية.

 

ولا تُخفى الخشية من أن يتم استغلال هؤلاء اللاجئين، الذين باتوا يشكّلون كتلة ديموغرافية وازنة، سياسياً أو أمنياً في سياق تأجيج التوتر، خصوصاً في ظل غياب سياسات لبنانية واضحة للتعامل مع هذا الملف الحساس.

 

لا تقتصر التحديات على البُعد المذهبي، بل تتعداها إلى خطر تسلل الجماعات المتطرفة من الأراضي السورية إلى الداخل اللبناني. فتدهور الوضع الأمني في سوريا، لاسيما في المناطق الحدودية الشرقية والشمالية، يسمح لهذه الجماعات بإعادة تنظيم صفوفها، والتوسُّع في بيئة لبنانية تعاني أصلاً ضعفاً في مؤسسات الدولة، وانهياراً اقتصادياً غير مسبوق، وعجزاً أمنياً واضحاً. يشكل هذا الواقع تربة خصبة لتنامي نفوذ التنظيمات المتطرفة، التي يمكن أن تستثمر الفوضى اللبنانية في عمليات تجنيد، أو شن هجمات، أو حتى فرض أمر واقع في بعض المناطق.

 

تشير تقارير ديبلوماسية غربية إلى مخاطر أمنية حقيقية تهدد منطقة البقاع، وتحديداً قرى بعلبك -الهرمل، نتيجة التحركات العسكرية لفصائل سورية معارضة، منها جبهة تحرير الشام، التي قد تتذرع بما يحصل عند الحدود الشرقية لتبرير اختراقها الأراضي اللبنانية، إما لملاحقة خصومها، أو لفتح جبهات جديدة. وهنا تبرز ضرورة قيام الدولة اللبنانية، عبر الجيش والقوى الأمنية، بإجراءات استباقية واضحة لمنع أي تمدد محتمل، وللحد من تكرار السيناريوات التي جرى اختبارها في عرسال قبل سنوات.

 

في خضم هذا المشهد المتشابك، تبدو دعوات تحييد لبنان عن الصراعات الإقليمية أكثر من ضرورية، لكنها تصطدم بواقع سياسي منقسم، وأحزاب مرتبطة عضوياً بمحاور إقليمية متصارعة. من هنا، فإن المخرج الوحيد المتاح لتقليص احتمالات الانفجار الداخلي هو تفعيل الحوار الوطني، وإعادة الاعتبار للمؤسسات الشرعية، ورفض أي انخراط لبناني في المحاور المتنازعة. فاستقرار لبنان لم يعد شأناً داخلياً فحسب، بل أصبح جزءاً لا يتجزأ من منظومة الأمن الإقليمي، وأي تفجير في الساحة اللبنانية ستكون له ارتدادات كارثية ليس فقط على الداخل، بل على كل المنطقة التي تقف اليوم على حافة تصعيد وتغيّرات في الديموغرافيا والخرائط.

 

تأسيساً على هذه القراءة، لا يمكن للبنان أن يظل على هامش الأزمة السورية، لكنه في المقابل لا يستطيع تحمّل أثمان انخراط مباشر فيها. تالياً، تظلّ سياسة النأي بالنفس، على الرغم مما شابها من إخفاقات، تظل الخيار الأقل ضرراً، شرط أن تُفعَّل ضمن رؤية وطنية شاملة، قادرة على احتواء التوترات، ومنع الانزلاق نحو فوضى جديدة. فلبنان الهشّ، اقتصادياً وأمنياً، لم يعد يتحمل المزيد من الصراعات المؤجلة، ولا الصراعات العبثية التي لا تنتج سوى مزيد من الانقسام والدمار.

 

أنطوان الأسمر- “اللواء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Powered by WooCommerce