مقاربة قانونية لضبط فوضى السلاح في لبنان
مقاربة قانونية لضبط فوضى السلاح في لبنان
كتب داود رمال في “نداء الوطن”:
تُعَدّ أزمة انتشار السلاح في لبنان من أعقد التحديات التي تواجه الدولة ومؤسساتها، ليس فقط بسبب التداخل بين السلاح الشرعي وغير الشرعي، بل أيضاً نتيجة غياب الإطار القانوني الرادع والرقابي الفاعل. فمنذ نهاية الحرب اللبنانية، ما زال لبنان يعاني من ظاهرة السلاح المنتشر بيد الأفراد والمجموعات والتنظيمات، بعضه مشرّع بحكم الأمر الواقع، وبعضه الآخر خارج عن كل رقابة وسلطة.
وفي ضوء الانهيارات المتعددة التي أصابت البنية السياسية والمؤسساتية، تبرز الحاجة إلى مقاربة علمية وقانونية متكاملة تبدأ من مراجعة التشريعات وتفعيل الرقابة وتجسيد مبدأ العقوبة.
إن أول مدخل حقيقي لمعالجة هذه الأزمة يكمن في إعادة النظر الجذرية في قانون الأسلحة والذخائر المعتمد في لبنان، والذي ما زال قائماً على بنية تشريعية قديمة لا تواكب تعقيدات الواقع الأمني والسياسي الحالي. فالقانون الصادر عام 1959، على الرغم من إدخال بعض التعديلات عليه، لا يزال قاصراً عن مواكبة أشكال التسلح الجديدة وطرق التداول غير الشرعية للأسلحة الخفيفة والمتوسطة، كما لا يضع إطاراً صارماً لمساءلة حيازة السلاح خارج المؤسسة العسكرية والأمنية الرسمية. إن التعديل المطلوب لا يجب أن يكون شكلياً، بل بنيوياً، بحيث يعيد تعريف حالات حيازة السلاح ويوسّع من صلاحيات الأجهزة الأمنية في مداهمة أماكن التخزين غير الشرعي، ويشدد العقوبات على المتورطين، سواء في الحيازة أو الترويج أو النقل أو البيع.
ويتكامل هذا التعديل مع ضرورة إعادة النظر في قانون العقوبات اللبناني نفسه، لا سيما بعد إلغاء اتفاقية القاهرة عام 1987، والتي كانت تمنح فصائل فلسطينية صلاحيات أمنية وعسكرية على الأراضي اللبنانية. فإلغاء هذه الاتفاقية أزال الغطاء السياسي والقانوني عن وجود أي نشاط عسكري خارج إطار الدولة، وكان يُفترض أن يتبعه تعديل واضح في قانون العقوبات يجيز محاسبة أي فرد أو جهة، لبنانية كانت أم غير لبنانية، تقوم بعمل عسكري أو أمني خارج القانون وتحت أي مسمى، سواء كان مقاومة، دفاعاً ذاتياً، أو تنظيماً حزبياً. إلا أن هذا التعديل لم يحصل، ما أبقى الثغرات القانونية قائمة، ومكّن بعض الجهات ومنها غير لبنانية (نموذج “حماس”) من التسلح والعمل العسكري خارج رقابة الدولة.
أما على المستوى الرقابي، فالمعضلة تكمن في غياب جهاز مركزي فاعل يتولى مراقبة كل ما يتعلق بصفقات الأسلحة، سواء تلك التي تدخل عبر المعابر الشرعية أو غير الشرعية، أو تلك التي يتم شراؤها داخلياً وتُوزّع على مجموعات حزبية أو عشائرية أو مناطقية. وهنا لا بد من إعادة إحياء الهيئات الرقابية داخل كل الوزارات والمؤسسات، لا بصفتها شكلاً إدارياً روتينياً، بل كسلطة فاعلة تمارس دوراً قضائياً-رقابياً حقيقياً. والسؤال الجوهري هو: من يراقب حالياً عمليات التسليح، والحراسات الخاصة، والتنظيمات المسلحة الخارجة عن الدولة؟ من يتتبع حركة السلاح داخل المخيمات، وفي مناطق النزاع، وفي بيئات العشائر، وفي مخازن الأحزاب؟ لا إصلاح حقيقياً دون جهاز رقابي موحد ومختص يتبع للسلطة القضائية أو مجلس الدفاع الأعلى، ويملك صلاحية التقصي والمحاسبة، ويتعاون مع الأجهزة الأمنية من دون عراقيل سياسية أو طائفية.
وتبقى النقطة الفاصلة في أي مشروع إصلاحي هي في ربط النص القانوني بالعقوبة الملموسة، لأن القوانين مهما بلغت دقتها لا تكتسب قيمتها ما لم تقترن بعقوبة رادعة وواضحة. ولا يمكن للعقوبة أن تكون رادعة ما لم تتجسد واقعياً، أي أن تنفّذ وتطبق وتُكرَّس كواقع لا كسابقة نادرة. وتجسيد العقوبة في السياق اللبناني يتطلب أن يكون السجن عقوبة فعلية لا رمزية، وأن تشمل المحاكمات جميع المتورطين في انتهاك القوانين المتعلقة بالسلاح، أياً تكن مواقعهم السياسية أو انتماءاتهم الحزبية أو الطائفية. إن السجن هنا ليس عقاباً بقدر ما هو رسالة قانونية واضحة تقول إن هيبة الدولة لا تُشترى بالتسويات، بل تُبنى بالعدالة والردع.
في المحصلة، إن معالجة فوضى السلاح في لبنان لا يمكن أن تُختَزل في المعالجات الأمنية الموضعية أو في دعوات الحوار السياسي غير المنتج، بل تتطلب إرادة سياسية وتشريعية قاطعة تبدأ بتعديل قانون الأسلحة وقانون العقوبات، مروراً بتفعيل الرقابة المؤسسية، وانتهاءً بتجسيد مبدأ العقوبة عبر نظام قضائي لا يخضع لأي تدخلات. هكذا فقط يمكن للبنان أن يستعيد جزءاً من سيادته المهدورة، وأن يُرسي الأسس لدولة القانون التي وحدها تملك حصرية السلاح وشرعية العنف المنظَّم