خاص infinty

دوائر مفرغة: اللبنانيون وانتخاب الوجوه ذاتها

دوائر مفرغة: اللبنانيون وانتخاب الوجوه ذاتها

بقلم وفاء فواز – رئيسة التحرير

في بلدٍ ينوء تحت ثقل الانهيارات، وفي زمنٍ كفر فيه المواطن بالوعود، جاءت الانتخابات البلدية لتكشف عن مرآة صافية ـ وربما مؤلمة ـ للواقع اللبناني: أكثرية الناس أعادت انتخاب نفس الزعامات، وكأنما الزمن لم يتحرك، وكأنّ السنوات التي مرت منذ انفجار المرفأ وانهيار الليرة وثورة الشوارع، لم تكن إلا حلماً عابراً في ليل الطوائف الطويل.

ليس مستغرباً أن تعود القوات اللبنانية وتنتصر في بشرّي، ولا أن يعاند التيار الوطني الحر الزمن ويقاتل من أجل رمزيته في البترون، كما لا يُدهش أحد أن يبسط الثنائي الشيعي هيمنته على الجنوب والبقاع كمن يحرث أرضاً يعرفها حجراً حجراً. الغريب حقاً هو هذا الإصرار الشعبي على اجترار الوجوه ذاتها، رغم ما أصاب البلاد من جراح على أيدي هؤلاء.

تاريخ لبنان ليس حديثاً في تكرار المآسي. من المجازر الطائفية في القرن التاسع عشر، إلى الحرب الأهلية، فإلى تسويات ما بعد الطائف، لطالما كانت الطوائف ـ لا البرامج ـ هي حاملة مفاتيح الصناديق. تغيّر اللاعبون، لكن الطوائف لم تتزحزح من موقعها كلاعب أول، والعائلات السياسية استمرت في توريث البلد كما تورّث بساتين الليمون. حتى الثورة، التي خرجت من رحم الوجع، لم تستطع أن تُحدث قطيعة معرفية مع هذا الإرث. هي خلخلت المشهد، نعم، لكنها لم تنجح في بناء مشروع بديل متماسك، فكان أن عاد الناس إلى ما اعتادوه، كما يعود الجريح إلى ضماده المتّسخ، خوفاً من نزيفٍ أشدّ.

القوات اللبنانية، الحزب الذي خرج من الحرب الأهلية محمّلاً بوصمة الدم، نجح في أن يعيد تشكيل صورته كحارس للكيان، مستفيداً من خطاب المواجهة مع حزب الله، وحافظ بذلك على قاعدته المسيحية الناقمة على السلاح خارج الشرعية. أما التيار الوطني الحر، الذي بدأ كمشروع إصلاحي يُحارب الفساد، فقد تحوّل مع الوقت إلى جزء من منظومة المحاصصة التي لطالما انتقدها، ففقد الكثير من رصيده، خصوصاً بعد مشاريع كلّفت الدولة المليارات دون فائدة تُذكر، من ملف الكهرباء الذي بقي مظلماً، إلى السدود التي بُنيت على الرمل، لا على دراسة علمية. فكانت الخسارة مزدوجة: المال والثقة.

أما الثنائي الشيعي، فقد تجاوز فكرة الانتخابات بحد ذاتها. فهو لا يطرح مشروعاً سياسياً بل يفرض واقعاً اجتماعياً ـ أمنياً، مستفيداً من غياب أي بديل شيعي حقيقي، ومن دمج المقاومة بالخلاص الشعبي، حتى لو كانت معاركه الإقليمية ـ من سوريا إلى اليمن ـ قد جلبت على لبنان عزلة سياسية واقتصادية، وأثقلت كاهل المواطن بأثمان لا شأن له بها.

نحن نعيش في بلدٍ لا يحب التغيير، لا لأن الشعب لا يرغب به، بل لأن أدوات التغيير تُقمع أو تُشوّه أو تُفكك من الداخل. من كمال جنبلاط إلى لقمان سليم، كان مصير الحالمين هو الإقصاء، أو الرصاص، أو التخوين. والمفارقة أن الشعب ذاته، الذي يهتف ضد السلطة، يعود ويمنحها الشرعية في الصناديق، وكأنه يُعيد إنتاج عبوديته بإرادته.

فهل هذا قدرٌ؟ أم عجز؟ أم مزيج من الاثنين، تداخل فيه الخوف من المجهول مع ثقافة المسايرة والعجز الجماعي عن المجازفة؟

لبنان، ذلك البلد المعلّق بين الأسطورة والانهيار، لا يزال عالقاً في “أوديسا” سياسية لا نهاية لها. ننتخب الوجوه ذاتها، ونشكو من السياسات نفسها، ثم ننتظر معجزة من رحم الفساد. لكن المعجزات لا تولد في الفراغ، ولا تولد من رحم الطوائف. وحده الوعي، الجريء والصارم، هو الذي يكسر الحلقة المفرغة.

لقد شاركت معظم الأحزاب، بمختلف أطيافها، في نهب أموال المساعدات والموعدين، واقتسام خيرات الدولة باسم الطائفة، لا باسم الشعب. تنافسوا في العلن وتآخوا في الخفاء، على مائدة الفساد، يوزّعون الحصص ويتبادلون المواقع، فيما الناس تصطفّ على أبواب المستشفيات وتنام في الظلام.

فكيف لا يفكّر اللبنانيون؟

كيف لا يراجعون ضميرهم، وهم يرون أطفالهم يكبرون في وطنٍ بلا مدارس، ولا ماء، ولا كهرباء؟

ألا تذكّركم هذه الازدواجية بما ورد في الإنجيل: “من ثمارهم تعرفونهم” (متى 7:16)؟

أو بقول الله تعالى في القرآن الكريم: “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقاً من أموال الناس بالإثم” (البقرة: 188)؟

فإلى متى سنبقى ننتخب أشباحنا؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Powered by WooCommerce