أغبياء اليمين اللبناني في آخر مغامراتهم
كتب ابراهيم الأمين -في جريدة الأخبار
في زمن سابق، يعود إلى خمسينيات وستينيات القرن الماضي، كان اليمين اللبناني يقود حرباً ضد اليسار، مستنداً إلى علاقات التبعية نفسها مع الولايات المتحدة والغرب وعرب الخليج. وكان يهاجم اليسار، والشيوعيين على وجه التحديد، باتهامات شتى: غير لبنانيين، «جالية» مستعدّة للموت دفاعاً عن الاتحاد السوفياتي، يسار يرفض وضع الأرزة في أعلامه ولا يحفظ أنصاره النشيد الوطني، يكرهون الجيش، وعندما يتظاهرون يكسرون إشارات السير وواجهات المتاجر ويحرقون أحياء من «أنعم الله عليهم بالمال»، يريدون تدمير الاقتصاد الحر والنظام المصرفي، يسيرون خلف موسكو المتعصّبة ويتعلمون في جامعاتها ويقرأون في كتبها، ويسمعون الموسيقى الآتية من بلاد الصقيع. وكان لليمين مساعدون من حملة مفاتيح الجنة، شيوخاً وكهنة، ممن لم يفوّتوا خطبة جمعة أو عظة أحد لإدانة كفار اليسار الذين لا يؤمنون بالله ويدعون إلى تحطيم المقدّسات الإلهية.
ومنذ انهيار الاتحاد السوفياتي، يحاول اليمين نفسه، إغفال أي إشارة إلى دور أميركا وحلفائها من الغرب والعروش على أنواعها في ما حصل. لكنّ مذكّرات ووثائق أجهزة الاستخبارات روت حكايات طويلة عن الأعمال التي قاموا بها لضرب حركة اليسار، والخطط المركزية التي وُضعت لـ«قطع أذرع المركز السوفياتي في العالم»، وعن التمويل الهائل الذي أنفقته المخابرات الأميركية وعرب الخليج في هذه المعركة، علماً أن جيلاً من المثقّفين المنهارين، لعب الدور الأكثر قذارة بنفي كل ما كان يؤمن به.
بقي الغرب وعربه على أحوالهم وعاداتهم، ولم يتوقفوا عن العمل لأن الخطر لم ينته كلياً. وعندما سأل أحدهم عن سبب بقاء الحلف الأطلسي بعد سقوط حلف وارسو الاشتراكي، سارعت رئيسة الوزراء البريطانية الشريرة مارغريت تاتشر إلى الحسم: إذا كان الخطر الأحمر في طريقه إلى الزوال، فإن خطرين يطلان برأسيهما، واحد أخضر يمثّله الإسلام السياسي الذي انتعش بعد ثورة الخميني في إيران، وثانٍ أصفر تمثّله الصين بوصفها القوة الاقتصادية الصاعدة. وبالطبع، لم تكن تاتشر تحتاج إلى شركاء أكثر حماسة منها في الغرب الذي عزّز سيطرته على كل العالم، وبدأ يحرم أبناء أوروبا الغربية نفسها من امتيازات كرّستها نضالات اليسار الأوروبي الذي دعا إلى رفع قيمة دولةِ الرعاية على دول الريع.
في لبنان، بقي اليمين على حاله، ولم يبدّل أفكاره، ولا طموحاته، ولا علاقاته وتبعيته لمحور الشر نفسه الذي تقوده الولايات المتحدة (وإسرائيل) ومعها عرب الخليج وعرب آخرون انضموا إلى هذا الحلف بحجة حفظ الرأس، كما حصل مع مصر. لكنّ اليسار اللبناني الذي دخل في متاهة النقد الذاتي، ولم يجرؤ على مُساءلة اليمين عن جرائمه الهائلة التي مارسها قبل الحرب الأهلية وأثناءها وبعدها، ولم يطلب محاكمة من تعاملوا مع العدو في زمن السلم وفي زمن الحرب، بل ذهب بعض اليسار إلى تبنّي سردية اليمين نفسه، إلى أن صار هذا اليسار خبراً من الماضي، ولم يبقَ منه إلا مجموعات تصارع نفسها لمعرفة أصل الأنواع.
اليوم، نرى اليمين نفسه، يكرّر الدور نفسه، مع المقاومة الإسلامية في لبنان. وهذا اليمين، لشدّة كسله، لم يعدّل في أدبياته وخطابه. فنراه ينفي الهوية اللبنانية عن المقاومة حزباً ومناضلين وجمهوراً، ويتعامل معهم على أنهم جالية إيرانية، ولا يمثّلون طموحات تخدم لبنان، وحتى تحرير أرض لبنانية تحتلها إسرائيل حصل لمصلحة إيران، ومواجهة أدوات التكفير والتخريب تخدم الفكر الإيراني، والسعي إلى رفع الشأن الاجتماعي للبسطاء والفقراء، بإتاحة العمل والعلم والطبابة لهم دون انتظار دولة فاسدة، إنما هدفه تربية أجيال تخدم إيران.
مشكلة أتباع أميركا وإسرائيل أنهم لا يقدّرون معنى نفي الهوية الوطنية عن غالبية لبنانية ستعود إلى بيوتها برؤوس مرفوعة وبنادق مذخّرة
مشكلة اليمين اللبناني أنه بعدما فقد غالبية عناصر قوته الذاتية، بات يعمل الآن بقوة أسياده فقط، وهو لا يناقش ما يُطلب منه، ويسير كالأعمى خلف حملة «تخليص لبنان من الاحتلال الإيراني». يريد هؤلاء قطع العلاقات مع إيران، وإغلاق سفارتها في بيروت، وإقفال كل الجمعيات التي تخدم الناس، من مستشفيات ومدارس ومعاهد فنية، إلى القرض الحسن والشركات التجارية القائمة على شراكة تعاونية.
ولأن هذا اليمين كان غبياً عندما أشعل الحرب الأهلية، وكان أكثر غباءً عندما استجدى دعم سوريا والعراق قبل السعودية وأميركا وإسرائيل، لم ينجح في حماية سلطته المنهارة. مع ذلك، فهو لا يزال على غبائه في مقاربته للحرب الإجرامية التي تشنها إسرائيل اليوم. ويعتقد بأن ما يقوله له الأميركيون والإسرائيليون وعربهم، هو الحقيقة التي لا نقاش فيها. وهذا ما يجعل الصيصان، ممن وُلدوا من رحم الكتائب والجبهة اللبنانية وقواتها وسياديّيها، شديدي الحماسة لتكرار التجربة، فيضربون على صدورهم متطوّعين لخوض المعركة الداخلية، وملاقاة الحرب الإسرائيلية على المقاومة، ظناً منهم أنهم سيحصدون الفوز بسلطة دولة ما بعد حزب الله!
وعدة الشغل لدى هؤلاء، تبدأ من اعتبار أن حزب الله في طريقه إلى الانهيار، وأن إيران هي من يتولى أموره اليوم، وأن ليس بمقدوره الصمود ومقاومة الحرب، وأنه خاسر حتماً. ولتعزيز هذه السردية، يتحدث هؤلاء عن عشرات آلاف الشهداء الذين لم يعرف أهلهم بعد بمصيرهم، وعن خسائر اقتصادية بسبب الحرب تتجاوز 50 مليار دولار، والتفاعل مع صور جنود الاحتلال الذين يدمّرون المنازل في القرى الحدودية، مع إضافة أن الدمار لم يبقِ على أيّ من قرى الجنوب وبلداته، وأن الضاحية دُمّرت عن بكرة أبيها، وأن لبنان يضجّ بمليوني نازح. ويزايد هؤلاء على العدو بما لم يتفوّه به هو نفسه، مثل أن اللبنانيين ليسوا مسؤولين عن أفعال من قرّروا أن يكونوا إيرانيين، وأن مستشفيات لبنان، الحكومية والخاصة، غير مضطرة إلى استقبال مرضاهم، وأن شركة طيران الشرق الأوسط ليست ملزمة بنقل جرحاهم إلى الخارج، وأن الحكومة ليست مسؤولة عن توفير عناصر صمودهم، وأن الدولة – كما العرب والعالم – ليست معنية بإعادة إعمار بيوتهم التي تهدّمت… وفوق هذا كله، يفكر هؤلاء في آلية لمعاقبة المقاومين إن أتيح لهم ذلك.
المشكلة مع هذه القذارة التي تطلّ علينا على شكل سياسيين وإعلاميين ونواب وقيادات، ليست في حقدهم المتوارث جيلاً بعد جيل، بل في أنهم مستمرون في حال الإنكار الدائم، ولا يدركون أنهم يمارسون الخطأ الأخير في حياتهم السياسية. ويكفي إيراد حديث بين مسؤول كبير وضيفه المقرّب من المقاومة قبل أيام. قال المسؤول لضيفه: «فهمت أنه لم تعد للمقاومة قيادة لبنانية، وأن كل شيء يديره ويتولاه الإيرانيون، وأن القضاء على المقاومة هو مسألة وقت فقط». فما كان من الضيف إلا أن يوضح للمسؤول الفهيم قائلاً: «إذا كان ما تقوله صحيحاً، فعليك أن تخاف، لأنك ستكون في مواجهة من تعتقد بأنه لا يهتم للبنان. لكن عليك أن تخاف أكثر، لأن ما تقوله غير صحيح، ولأن أبناء هذا البلد، ممن يقودون المقاومة اليوم، في البقاع والجنوب وفي بيروت وضاحيتها، سيخرجون على الملأ في يوم قريب رافعين راياتهم، ويسيرون إلى حيث وُلدوا، وحيث سيدفنون أحبّتهم من الشهداء، وحيث يريدون أن يواصلوا حياتهم. لكنهم، بعد كل ما ذاقوه من مرارة، لن يبقوا على درجة التسامح التي اتّسم بها سلوكهم طوال أربعين عاماً!