اخبار فلسطين

“طوفان الأقصى”: قراءة سياسية “على البارد”

خمسون عاما بالتمام والكمال. خمسة عقود كاملة مرت على حرب الـ 1973 قبل أن ينطلق “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول 2023، في ما يصح اعتباره نوعا من “الانتقام” الفلسطيني من احتلال  اسرائيلي يرتكب افظع الجرائم والانتهاكات الانسانية، مستفيدا من صمت وتآمر المجتمع الدولي للمصالح والمآرب السياسية المعروفة. لكن، وفيما ينشغل الرأي العام العالمي بصور الجرائم الشنيعة التي توثقها عدسات الكاميرات منذ السبت الفائت، وإذا كان من المسلم به أن في الوقت الراهن، لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، فإن أحدا لا يمكن أن يشك في أن ما يجري في غزة يفترض أن يقرأ من زاوية سياسية، لا لشيء إلا لأن من شأنه أن يرسم معادلات جديدة في زمن الهجوم على التطبيع وتغيير التموضعات في العالم.

ذلك أن إلى جانب كونه انطلق غداة الذكرى الخمسين لحرب الـ 1973، تكمن أهمية الهجوم المباغت الذي شنته حركة حماس (مع العلم أنها قد تكون المرة الوحيدة التي تبادر فيها الحركة إلى إشعال شرارة المواجهة) على اسرائيل في أنه أتى ليوقظ الكيان العبري من حلم التطبيع السريع مع المملكة العربية السعودية “الجديدة” وقبطانها الأمير محمد بن سلمان، وهي التي تعد المرجع الأول والدولة الأبرز في العالم العربي. ولا يغيب عن بال المراقبين في هذا الاطار الاشارة إلى أن في وقت ركب عدد من الدول العربية قطار التطبيع مع تل أبيب من دون شروط تذكر، رفع ولي العهد السعودي سقفه، مستفيدا من أوراقه القوية، خصوصا على المستوى السياسي والنفطي، ليحدد شروطه للسير بالصفقة: لا تطبيع من دون بحث القضية الفلسطينية. قالها الرجل السعودي القوي في مقابلة أجرتها معه قبل أسابيع قناة “فوكس نيوز” الأميركية، ما يوحي بأن ولي العهد أراد ايصال رسالة واضحة إلى تل أبيب، ومن ورائها داعمتها الأولى، واشنطن، المتمسكة بالثابتة الشهيرة “أمن إسرائيل خط أحمر”. وفي المقابلة نفسها، ذهب بن سلمان إلى ملامسة خط أحمر آخر: “إذا امتلكت ايران السلاح النووي، فالمملكة ستفعل ذلك أيضا”. كلام أتى بعد شهور على اتفاق بيكين الشهير الذي رمم الجسور بين طهران والرياض، من دون أن ينجح أي من الطرفين في قطف ثماره على الأقل.

من هذه الزاوية يصح اعتبار “طوفان الأقصى” ردة فعل ايرانية على مسار سياسي كبير في المنطقة بدأت معالمه تتضح في غياب لمسة واضحة للجمهورية الاسلامية فيه، مع العلم أن هذه الأخيرة خسرت أوراقا كثيرة بينها في لبنان حيث يعجز حلفاؤها عن فرض ارادتهم الرئاسية بسهولة على خصومهم المعارضين.

ولكن، كل هذا لا يعني أن طهران على استعداد للتخلي عن سياسة مهادنة للانتقال إلى المواجهة، بدليل أن حزب الله، بوصفه الذراع العسكرية اللبنانية لايران، لا يزال يمارس ضبط النفس، ويتجنب الدخول بشكل مباشر في أتون المواجهة مع العدو الاسرائيلي، مع العلم أنه لا يزال يحتفظ بسلاحه بفضل هذه الذريعة تحديدا. حتى اللحظة إذا لا يزال الطرفان، حزب الله واسرائيل، يلعبان تحت سقف قواعد الاشتباك المحددة منذ العام 2006، وعلى طريقة “زيح، بدي إضرب”، على حد قول أحد المراقبين، وذلك لرفع العتب وحفظ ماء الوجه وتجنب انزلاق الأمور إلى مواجهات لا تخدم أحدا ولا مصلحة لأحد فيها. وما الصمت المطبق الذي يعتصم به الأمين العام لـ “حزب الله” السيد حسن نصرالله منذ إنطلاق “الطوفان” إلا إشارة واضحة إلى عدم الرغبة في التصعيد، من دون إغفال هدف آخر يكمن في رفع منسوب الحرب النفسية على دولة عبرية تقاتل على وقع الصدمة.

ذلك أن الجيش الذي لا يقهر، لم يستسغ بعد ما يعتبره كثيرون فشلا مخابراتيا كبيرا (اعترف به بشكل غير مباشر المتحدث باسم الجيش الاسرائيلي باللغة العربية أفيخاي أدرعي يوم الخميس) كان يمكن أن يجنب تل أبيب حربا أتت لتعلق مسارا تطبيعيا طويلا أراد منه الكيان العبري تظهير نفسه على أنه دولة تستطيع أن تطبّع علاقاتها مع العرب كأي دولة أخرى في العالم. لكن هذه المرة، أتتها الضربة الفلسطينية مرة وقوية بحجم شناعة ارتكابات الاحتلال على مدى عقود، دافعة جميع القوى السياسية في الكيان الاسرائيلي إلى إعادة مراجعة حساباتها وجرها إلى خيار تشكيل حكومة ائتلافية، وذاهبة إلى حد لف حبل المشنقة الانتخابية حول رقبة بنيامين نتنياهو الذي كان، حتى يوم الأربعاء، يرأس الحكومة الأكثر يمينية وتطرفا في تاريخ اسرائيل. ذلك أن أحدا لا يشك في أن حربا من هذا النوع وبهذا الحجم تضع المستقبل السياسي للرجل على حافة الهاوية الانتخابية. فهل تطيح “حرب تشرين الثانية” نتنياهو كما أطاحت حرب تشرين الأولى رئيسة الوزراء السابقة غولدا مائير؟ الجواب ستقدمه صناديق الاقتراع التي قد يستدعى الاسرائيليون إليها مباشرة بعد انتهاء الحرب لتوضع النقاط الشعبية على حروف المحاسبة. وحتى ذلك الحين، سيكون في إمكان نتنياهو وخصمه بني غانتس (الحاضر في الحكومة الائتلافية الحديثة الولادة) الاتكال على الدعم الأميركي المطلق، إلى حد استحضار حاملات الطائرات إلى منطقة… في خطوة لا يمكن فصلها عن رغبة الرئيس جو بايدن في إرسال الاشارات الايجابية إلى الناخبين اليهود على أبواب الانتخابات الرئاسية الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Powered by WooCommerce