قراءة سياسيّة في أزمة النّزوح… التي ستطول
حرب عامي 2023 و2024 لا تشبه حرب عام 2006 في العديد من الأمور، ومنها الحكومة القائمة وقتها، والحماسة العربية والدولية للبنان، والحجم الأقلّ للحرب وخسائرها. وعندنا اليوم أربع مشكلات: وقف الحرب، والنزوح، والصدمة الشيعية، ومن أين وكيف نبدأ باستعادة الوطن والدولة؟
سمعتُ في إحدى الفضائيات معلّقاً لبنانياً يقول إنّ هذه الحرب الإسرائيلية على لبنان هي غير كلّ الحروب لعدّة جهات:
– الخسائر الهائلة في العمران والإنسان.
– التهجير القسري الذي شمل رُبع سكّان لبنان حتى الآن.
– استهداف الشيعة على وجه الخصوص.
– التفوّق الإسرائيلي الساحق.
– أنّ اللبنانيين ما عاد عندهم ما يمكنهم المفاوضة عليه حقّاً لوقف النار، فكيف بوقف العدوان؟
ما لم يقُله المعلِّق اللبناني أنّ الحساسيّات من النازحين هي أعلى بكثير ممّا كانت عليه عام 2006. لكن ما ينبغي أخذه بالاعتبار أنّ المهجَّرين عام 2006 كانوا أقلّ من نصف الحاليين. وكانت المشكلة أنّهم جاؤوا فجأة خلال أيام، بينما في الحرب الحالية نحن نتحضّر لاحتمالات النزوح منذ عام ونيّف. فقد قال الإسرائيليون منذ البداية إنّ الحرب على الجبهة الشمالية إن وقعت فستكون غير حرب 2006! والطريف أنّ الحزب وإيران قالا إنّها حرب محدودة، وهي حرب إسناد وتتوقّف عندما تتوقّف حرب غزة. لذلك تكرّرت في خطابات نصرالله عبارة قواعد الاشتباك! ولست خبيراً استراتيجياً لكنك لا تستطيع أن تشنّ حرباً على عدوّ وشرطك أن لا يصعّد العدوّ في تلك الحرب أكثر من القدر الذي تريده!
ما لم يقُله المعلِّق اللبناني أنّ الحساسيّات من النازحين هي أعلى بكثير ممّا كانت عليه عام 2006
توتّرات النّزوح… وظروفه
لستُ أقصد في هذه المداخلة إلى دراسة احتمالات الحرب ومستقبلها. بل الحديث عن التوتّرات التي أحدثها النزوح في المدن والبلدات والقرى السنّية والمسيحية. فأين هم الآن رُبع سكّان لبنان النازحين؟
ستّون في المئة منهم حسب أفضل التقديرات لجأوا عند أقاربهم وأصدقائهم، أو استأجروا في المناطق الآمنة وإن بأسعار مرتفعة. وهناك لجوء (سياسي) في مناطق وليد جنبلاط من خلال اتّفاقٍ مسبقٍ. والنسبة الباقية من بين الأشدّ فقراً وحاجةً أُسكنوا بالمدارس والمنتديات أو جلسوا ليلاً نهاراً في الساحات. ومن عنده صبر وبنزين مضى إلى شمال لبنان حيث المناطق السنّية التي تقبل بمعظمها النازحين، وتعتبرهم أهلاً وإخوة كما كان عليه الأمر عام 2006.
لقد حدثت عشرات الحوادث الصغيرة عندما يقتحم النازحون ممتلكات خاصة أو عامّة. وهوَّل الفرنسيون وغيرهم أنّ لبنان على مشارف حربٍ أهلية. والذي أراه أنّه لن يحدث شيء من ذلك، مع أنّ طول الأزمة والحرب كفيل بتصعيد التوتّرات مع قدوم فصل الشتاء.
المسألة عسيرة جداً. فلو توقّفت الحرب اليوم فإنّ نصف النازحين لا يستطيعون العودة إمّا لأنّ منازلهم تهدّمت أو تضرّرت، وإمّا لأنّهم يخشون عودة الحرب. وهكذا تحدث أزمة ديمغرافية وسياسية ثالثة بعد الحرب الأهلية، وبعد تهجير ضحايا حرب عام 2006.
ستّون في المئة منهم حسب أفضل التقديرات لجأوا عند أقاربهم وأصدقائهم، أو استأجروا في المناطق الآمنة وإن بأسعار مرتفعة
تاريخ نهاية الحرب؟
أولى الصعوبات أنّه لا أحد يعرف متى تتوقّف الحرب. لكنّ الأمر يبقى، كما قلنا، أنّ نصف النازحين لا يستطيعون العودة حتى لو كان سلام لأنّ مساكنهم مهدّمة جزئياً أو كلّياً. ويمكن أن يقال هنا إنّ اللاجئين السوريين الذين جاؤوا خلال ستّ سنوات وأكثر عددهم أكبر من عدد النازحين اللبنانيين. ومع ذلك لم تحدث حرب أهلية أو نزاع داخلي كبير. والسبب أنّ ثمانين في المئة من هؤلاء سكنوا في مئات المخيّمات التي أُعدّتْ لهم على الرغم من معارضة السلطات. كما زُوّدوا بالمتطلّبات الصحّية والتعليمية من الجهات الدولية.
فهل يكون بالوسع الآن وقبل الشتاء صنع مخيّمات للنازحين اللبنانيين بما يتضمّن الإيواء والإخراج من المدارس ومن الممتلكات الخاصة والعامة؟!
هناك شكاوى دولية الآن من أنّ الإغاثات سيطر عليها التقصير لجهة الإيواء ولجهة الأمن الغذائي وخلال أقلّ من شهر على الرغم من المساعدات الإماراتية والسعودية والدولية الكبيرة.
تشكو بلدات سنّية ومسيحية في شرق لبنان وشماله من أنّ تكدّس النازحين ما عاد يمكن احتماله. فعرسال فيها ثمانون ألف نازح جديد، إضافةً إلى أربعين ألف نازح سوري قديم. وكذلك الفاكهة وقرى وبلدات شمالية عديدة. فماذا نقول عن بيروت وصيدا وطرابلس؟
أولى الصعوبات أنّه لا أحد يعرف متى تتوقّف الحرب. لكنّ الأمر يبقى، كما قلنا، أنّ نصف النازحين لا يستطيعون العودة حتى لو كان سلام لأنّ مساكنهم مهدّمة جزئياً أو كلّياً
المشكلة السّياسيّة
نصل إلى المشكلة السياسية. المدن والبلدات السنّية والدرزية تتحمّل النزوح أكثر من البلدات المسيحية، على الرغم من أنّ بلدة دير الأحمر المسيحية ومثيلاتها استطاعوا تدبير الأمور بأقلّ الإزعاجات الممكنة. ونقصد بالمشكلة السياسية ليست الفروق الطائفية في اللجوء السوري أو اللبناني، بل المستقبل.
في عام 2006 كانت هناك حكومة قادرة واستطاعت إعادة الناحين وفتح المدارس بالجنوب في أقلّ من ستّة أشهر. بيد أنّ الحرب هذه المرّة غير تلك المرّة من حيث الحجم. كما أنّ العطف الدولي والعربي على لبنان غيره عام 2006.
هناك بالطبع إجماع لبناني ودولي على تطبيق القرار 1701. لكنّه إن حصل فهو لدى معظم المعارضين لا يحلُّ مشكلة السلاح، بمعنى أنّه يبقى فيما وراء الليطاني لجهة لبنان. وهذا إن أمكن تطبيق القرار لجهة إخلاء المناطق الحدودية من السلاح فعلاً.
الأطراف المعارضة ومعها كثير من اللبنانيين غير الحزبيين ما عادوا يقبلون بالحزب وتنظيمه المسلّح والمرتبط بجهة إقليمية هي إيران
3 مشاكل أساسيّة:
المشاكل ثلاث أو حتى أربع:
– الأولى أنّ إسرائيل تريد هذه المرّة إخلاءً وضمانات.
– والثانية أنّ الأطراف المعارضة ومعها كثير من اللبنانيين غير الحزبيين ما عادوا يقبلون بالحزب وتنظيمه المسلّح والمرتبط بجهة إقليمية هي إيران. المتفائلون جدّاً ما يزالون يتحدّثون عن الاستراتيجية الدفاعية، أي أن يصبح سلاح “المقاومة” مع الجيش بمقتضى اتفاق بين الأطراف السياسية اللبنانية. وقد فشلت منذ عام 2000 وبعد عام 2006 على الخصوص في استحداث هذا الحلّ لاستعصاء الحزب وسلاحه، وهيمنته على الدولة ومؤسّساتها وعلى الحكومات وعلى المعابر مع سورية وعلى المرفأ والمطار. ولذلك يبدو هذا الحلّ عسيراً على الإدراك وعلى التنفيذ.
– المشكلة الثالثة ليست أقلّ هولاً، وبالطبع ما كان نصرالله ولا الإيرانيون يتوقّعونها: حاربت إسرائيل الحزب حرباً شديدةً وما تزال. وقد قتلت شخصيّته الأسطورية نصر الله. سبعون في المئة من الشيعة هم الآن خارج مساكنهم وبلداتهم وقراهم. وهي صدمة لم تعرفها أيّ طائفة لبنانية من قبل بهذا الحجم. قتل بشير الجميّل، وقتل رفيق الحريري، وجرى تبادل سكّاني بطيء وهجرة. لكنّ الأحجام ليست متقاربة، كما أنّ الصدمة الشيعية بمقتل نصرالله وما تلاه من تهجير ليس لها مثيل.
الحزب وأنصاره من الطبيعي أن يكونوا شديدي التوتّر. وتوتّرهم من وسائل الإعلام التي تعرض مشاهد لا يحبّونها، ومن المحلّلين السياسيين والعسكريين ورجالات الأحزاب. هم يتّهمون وسائل الإعلام وبعض السياسيين بأنّهم مخامرون للعدوّ الإسرائيلي وينقلون الأخبار عنه وإليه. ويتّهمون بعض السياسيين والمحلّلين بأنّهم يعتبرون الغزو الإسرائيلي “فرصة” للتخلّص من الحزب وسلاحه.
هناك بالطبع إجماع لبناني ودولي على تطبيق القرار 1701. لكنّه إن حصل فهو لدى معظم المعارضين لا يحلُّ مشكلة السلاح
و4 مشكلات للمعالجة…
بغضّ النظر عن هذه الاتّهامات هناك المشكلات الأربع التي تحتاج إلى معالجة:
– وقف الحرب.
– وقف النزوح.
– الصدمة.
– وماذا نعمل بعد الحرب؟
وهي مشكلات ليس هناك اتفاق واضح حولها باستثناء القرار 1701 لوقف الحرب. وعلى الرغم من مشكلات القرار الدولي من جانب إسرائيل، هناك المشكلات الثلاث الباقية التي تتطلّب التعقّل والهدوء والصبر، وهي أمور كلّها غير متوافرة، وإن كان هناك أمل معتبر بنبيه برّي ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي.
إقرأ أيضاً: انهيار الشّرط الأخلاقيّ لما يسمّى المقاومة
فهل يبقى الدوليون والعرب متحمّسين للمساعدة أم نقع في ما وقعت فيه سورية؟
لا ينبغي أن ننسى: النزوح، والصدمة الشيعية الهائلة، وما العمل لاستعادة الوطن والدولة؟ وكيف؟ وكلّه بعد وقف النار!
أَوَلَم نقُل إنّها حرب غير كلّ الحروب؟
المصدر . اساس ميديا رضوان السيد