ترأس متروبوليت بيروت وتوابعها للروم الأرثوذكس المطران الياس عوده، خدمة القداس في كاتدرائية القديس جاورجيوس في بيروت.

بعد الإنجيل ألقى عظة قال فيها: “نقرأ في إنجيل اليوم عن إنسانين مجنونين بفعل الشيطان عدو البشر. لقد أصبحا شرسين، على عكس الحالة التي خلق الله الإنسان عليها، على صورته ومثاله، متمتعا بكل الصفات الإلهية، وبدل السكنى في الفردوس، حيث الجمال والبهاء والحياة الأبدية، دفع الشيطان هذين الإنسانين إلى العيش بين القبور، حيث الرائحة النتنة، والموت والظلام والبشاعة. الشيطان يسطو على نفوس البشر ليحطمها ويذلها ويفقدها كرامتها الأولى، فيما جاء المسيح لكي يخلصنا من سطوة هذا العدو المحال، الذي يخافه البشر لأنهم يجهلونه ويجهلون طريقة ومواجهته لهم”.

أضاف: “سمعنا الأحد الماضي عن إيمان قائد المئة، وأن الرب يسوع أتى لخلاص الجميع، واليوم نسمع كلاما عن رجلين، يرمزان إلى اليهود والأمم، وهما بحاجة إلى الخلاص، إذ لا أحد ينجو من سطوة المحال إن لم يسر بحسب وصايا الله، حتى لو كان من «شعبه المختار». اليهود سقطوا في الكبرياء أم الخطايا واعتبروا أنفسهم أبرارا «لأنهم إذ كانوا يجهلون بر الله ويطلبون أن يقيموا بر أنفسهم، لم يخضعوا لبر الله» كما نسمع في رسالة اليوم، والأمم سقطوا في الوثنية ولم يعرفوا الله، فتسلل الشيطان إلى الشعبين بلا تفرقة. متى تسلط الشيطان على الإنسان يفضحه، لذلك كان المجنونان عاريين، على عكس ما يحدث عندما نتشح بالمسيح-المحبة التي «تستر جما من الخطايا» (1بط 4: 8). أما قول الشيطان: «ما لنا ولك يا يسوع ابن الله؟ أجئت إلى ههنا قبل الزمان لتعذبنا؟»، ففيه اعتراف بأن يسوع هو ابن الله، لذلك نجده يحاول إبعاد الإنسان عنه، مدعيا أنه جاء ليعذب، لا ليخلص. الشيطان يخدعنا بقوله إنه يعرف الله والمسيح، لكنه يبث أفكاره الخداعة لكي يضللنا، كما تفعل بعض الجماعات التي توهم المؤمنين بأنها تعرف الكتاب المقدس، إلا أنها تجزئه وتحرفه بغية تضليلهم عن الإيمان القويم”.

وتابع: “عرف الشيطان بأن المسيح هو الديان الحق، فارتعب من اللقاء به وجها لوجه «قبل الزمان»، أي قبل المجيء الثاني والدينونة الأخيرة. ورغم معرفته بأنه سيدان، لم يظهر الشيطان أي توبة أو تراجع عن مكره. الشيطان دفع بالرجلين إلى العيش في القبور، أي في مكان كان يعتبر نجسا، وهذه إشارة إلى القبر الروحي الذي يدفننا فيه العدو الغاش بسبب عشقنا لنجاسة الخطيئة، بدل اتباع وصايا الرب. لقد كان المجنونان يقطعان السلاسل التي كانا يربطان بها بسبب الشيطان الذي يمنح جرأة للخاطئ كي يقطع كل الربط الدينية والروحية والاجتماعية والعائلية ويعيش على هواه، متمرغا في الوحل كالخنازير. أليس هذا ما يحدث في العالم اليوم، مع كل أشكال الجنون الدنس والابتهاج بالخطيئة وأشكالها، بدل اتباع الرب. نسمع عن جمعيات تشجع على تخلي البشر عن جنسهم واختيارهم العيش بشكل آخر وجنس آخر، حتى إنهم أصبحوا يفضلون أن يدعوا باسم الحيوانات، متخلين عن الصورة التي خلقهم الله عليها. كما نسمع عن مراهقين اختاروا الإنتحار بسبب الآلام النفسية والجسدية التي سببها لهم اتباع هذه الفرق، وعن تفكك العائلات بسبب ألاعيب الشيطان الذي يفرق لكي يسود على النفوس والأجساد. كل هذا يحدث تحت تسمية «الحرية الشخصية»، إلا أن الحرية الحقيقية هي التخلص من الخطيئة والعيش في كنف المحبة الإلهية”.

وقال: “حاليا يشن الشيطان حربا على الإنسان لكي يدخل اليأس إلى نفسه، ويشعره بأنه بلا قيمة أو فائدة، إذ يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يحل مكانه. إلا أن الرب والكنيسة لا يمكن لشيء أن يحل مكانهما، لأنهما الحياة الحقيقية، ولا يمكن للموت أن يسحقهما. نحن نؤمن بأن مملكة الشيطان سحقت بقيامة المسيح من بين الأموات، وهي ستدمر أكثر بعودة كل خاطئ يتوب قائما من موت المعصية، والشيطان نفسه يعرف جيدا أن مملكته إلى زوال، ولهذا أعلن أن المسيح أتى قبل الوقت ليعذبه. عندما التقى الشيطان بالمسيح عرف أن نهاية إقامته في المجنونين قد حانت، لأن كل من يلتقي بالمسيح يتنقى، فلا يعود منزلا مناسبا لسكنى الشرير. لذلك اختار الشيطان الدخول في الخنازير التي كانت تعتبر نجسة لدى اليهود، إلا أن الخنازير لم تحتمل بأس الشياطين وفضلت أن ترمي نفسها في البحر وتهلك. هذا يعني أن النعمة الإلهية تحفظ الإنسان وتحصنه ضد شر الشياطين، وتمنحه القوة على احتمال السوء، في انتظار مجيء الخلاص، لذلك لم تطلب الشياطين الدخول في إنسان آخر”.

أضاف: “بلدنا فيه وفرة من الزعماء والسياسيين والمسؤولين، لكن قلة منهم يهتمون بخلاص البلد والبشر، وبنشر وعي وطني يجمع ولا يفرق. قلة قليلة تعمل من أجل المصلحة العامة، وتقوم بواجبها الوطني بنزاهة وإخلاص. لو كان الجميع يقومون بواجبهم هل كنا لنشهد ما نشهده من خلافات ونزاعات وتباينات تساهم في تفكيك مجتمعنا؟ لو كانت الحدود واضحة بين المناطق والعقارات والمشاعات هل كان المواطنون يتقاتلون ويقتلون بسبب النزاعات على الحدود وعلى المياه؟ لم لا تقوم الإدارات المختصة بتحديد ملكية العقارات وبترسيم الحدود، كل الحدود، ليعيش الجميع بسلام؟ الحق لا يؤخذ بالتهويل أو بالتعدي والإلغاء، بل بالإحتكام إلى القانون وتطبيق أحكامه، وهذا يمنع الفتنة والإقتتال. على الدولة أن تعي مخاطر إهمال ما يطال حياة الناس لأن الإهمال قد يؤدي إلى جريمة، وعدم محاسبة المجرمين يؤدي الى الفوضى وربما أبعد”.

وختم: “منحنا الله العقل للتمييز بين الخير والشر، فعوض الإنجرار وراء الشر الذي يهلك ولا يخلص، نحن مدعوون ألا نرفض تدخل المسيح ليخلصنا من الشرير وحيله، مثلما رفضه أبناء كورة الجرجسيين فقط لأنهم خسروا قطيعهم من الخنازير. لقد جاء المسيح لخلاصهم، فرفضوه وطلبوا منه الرحيل لأنهم خسروا مصالحهم، التي هي أصلا مخالفة للشريعة والناموس. فلنبتعد عن المصالح والأنانية، ولنهرب من الشرير وحيله، متمثلين بالذين يقبلون الخلاص”.

Share.
Exit mobile version