هذه القصّة اللبنانيّة الطويلة
هذه القصّة اللبنانيّة الطويلة
كتب عقل العويط:
لم أتردّد في الذهاب إلى حيث أقابل فوحان الرحمة، الدالاي لاما، في دهار مسالا في ولاية هيمشال براديش في شمال الهند، بعدما تمّ اختياري – بالتخييل الافتراضيّ – للاجتماع به. هو الراهب البوذيّ الرابع عشر في سلسلة زعماء التيبت الروحيّين، من جماعة القبّعات الصفر (غيلوغبا) التي تحظى بولاء سائر الجماعات البوذيّة في التيبت والعالم.
وافقتُ على الفور، إذ كيف لا أوافق، وقلتُ في ذاتي إنّها فرصة العمر، من دون أنْ أشرح ماذا أقصد بـ”الفرصة”، وها أنا أوضح إنّها محض عزاءٍ قلبيٍّ وشعريٍّ فحسب، في خضمّ البشاعات التي تعتري العالم جرّاء الخراب الروحيّ غير المسبوق، من شمال الأرض إلى جنوبها. والآتي أعظم.
كنتُ أفضّل أنْ يحصل اللقاء في أرض الصفاء الأقصى، وتحت أنوار المكاشفات الصوفيّة، في جبال التيبت، بين الهضاب والبحيرات الألف وخمسمئة، لدى البوذيّين أحبابي، لكنّ ذلك بات مستحيلًا منذ اضطرار الدالاي للارتحال عن مسقط آبائه، تحت وطأة اليد الصينيّة الثقيلة.
تخييلٌ ليس إلّا، وضربة نرد – افتراضيّة – على طاولة الحمّى الشعريّة.
لم تكن غايتي إجراء لقاء صحافيّ مع الرجل. بل محض الجلوس إليه. الجلوس الروحيّ فحسب. من زمان آثرتُ أنْ أكتفي بقليل الضوء. ابتسامة خفيّة ألقيها على الشارع من الواجهة الزجاج؛ ابتسامة متقشّفة ورابطة الجأش، لكنّها لا تبدّد شيئًا كثيرًا من جهامة بيروت، الغارقة، كما لبنان بأسره، في مأساة التآكل والتبدّد والتوحّش والاستبداد.
يمكنني أنْ أقول بلا ندم، إنّي كنتُ غادرتُ الحفلة في منتصفها تقريبًا. وأكاد أبوح مُعاتبًا نفسي بأنّي قد أكون تأخّرتُ بعض الشيء، إذ كان عليَّ أنْ أكون أعمق حدسًا واستشرافًا فأنسحب قبل أنْ أشهد نذر النهايات باستحقاقاتها المخجلة. ما أجمل المقاعد الخلفيّة. ما أعمق دكنة الكواليس أيضًا. بل أكثر: التحصّن في المنازل الشخصيّة، لكنْ من دون إحباطٍ أو يأس. والبتّة. لم يشرّفني يومًا أنْ أظهر مصفّقًا للمقتلة العموميّة، أو ساكتًا عليها. كيف لا يصاب المرء بالسكتة الدماغيّة في خضمّ مشاركةٍ كهذه؟!
عندما عرضوا عليَّ (افتراضيًّا) قبل أيّام، أنْ أسافر إلى بيونغ يانغ، عاصمة كوريا الشماليّة، لألتقي كيم جونغ أون، وهو يستقبل القيصر الروسيّ، ويواصل استعراض عضلاته الحربيّة، ويضحك، ويأكل، ويمدّ رجليه على الطاولة، وتلقي طائراته أكياس النفايات فوق مناطق التماس مع كوريا الجنوبيّة، بدا لي ذلك العرض القبيح موازيًا إلى حدٍّ كبير لتردّدات العرض الدمويّ (الفعليّ) المتمادي في بلادنا والجوار الفلسطينيّ، على إيقاعات أوركسترا الخراب الأرضيّ، بقيادة حثالات القتلة والمايستروات وسارقي الأحلام والأعمار والطفولات والدول.
القصّة تخييلٌ افتراضيّ متقشّف للغاية. لا يتنطّح، ولا يناطح. إذ لا أحد يهمّه ربّما أنْ يقابل الدالاي لاما مثلًا، لأنّ خبرًا كهذا لن يحتلّ أكثر من زاوية متواضعة في جريدة أو على مواقع التواصل الاجتماعيّ، في حين أنّ اللقاءات الأخرى المعروضة والمحتملة (والحارّة) لا بدّ أنّ تقفز إلى واجهة الاهتمامات القصوى.
بين بايدن وترامب وكيم جونغ إيل وفلاديمير بوتين ونتانياهو والوليّ الفقيه وشي جين بينغ من جهة، وشعراء من مثل الدالاي لاما، من جهةٍ ثانية، كم يغبطني أنْ أبقى خارج امتدادات الحلبة الأولى، التي يتزاحم فيها كثرٌ من أنذال القوم، كبارهم وصغارهم، وبين بين.
قصّة اللقاء مع الدالاي لاما لا أساس لها من الواقع، لكنّ قصّة لبنان الواقعيّة الطويلة من يحرّره من براثنها؟!