قبرص للبنانيين… “جزيرة الأمان” في السراء والضراء
كتبت زيزي اسطفان في “الرأي الكويتية”:
– في الحرب اللبنانية كانت قبرص الملجأ الآمن للهاربين وبعد الانهيار الكبير صارت الملاذ للأموال الهاربة
– 40 ألف لبناني اشتروا شققاً… و280 مطوّراً عقارياً يعملون في الجزيرة
لم يؤدِ الهبوطُ المباغت لصحيفة «تلغراف» اللندنية على مطار بيروت وفيه وما أثاره من قرقعةٍ حول ما زَعَمَه تقريرُها عن تخزين «حزب الله» صواريخ هائلة في المرفق الحيوي «اليتيم» في لبنان، إلى وقف التحريات عن مغزى «الصاروخ السياسي» الذي أطلقه الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله في اتجاه قبرص والهدف من توعُّده بجعْل الجزيرة الهانئة جزءاً من الحرب، ومعها البحر المتوسط، وسط غيومٍ داكنة تحوم فوق الإقليم المترنّح فوق فوهة المَخاوف من صيفٍ لاهب.
بـ «سطر واحد»، تَعَمَّدَ نصرالله إمراره في صلب النص، أيقظ عنواناً بدا وكأنه من خارج السياق، اسمه قبرص، الجارة البحرية للبنان التي سبق أن شاطرتْه المأساةَ يوم اهتزّت الجزيرةُ على وقع الانفجار الهيروشيمي الذي دمّر مرفأ بيروت (4 أغسطس 2020) وكاد أن يُرْكِعَ العاصمةَ، التي كانت يوماً لؤلؤة المتوسط، على قدميْها، فإذ بالعلاقة اللبنانية – القبرصية تهتز تحت وابل التحذير – الإنذار الذي أطلقه قائد «محور الممانعة» في حرب المساندة لغزة.
ورغم أن القبارصة، الذين خَبِروا أزماتٍ كأداءَ لم تكسر ثالث أكبر الجزر في المتوسط، تعالوا على التهديد وتعاطوا معه بحِكْمة وربما بـ«رحابة صدر»، فإن اللبنانيين في غالبيتهم لم يشاطروا زعيم «حزب الله» هذا التجرؤ على دولة صديقة وذات سيادة خصوصاً أن قبرص غالباً ما شكلت الملاذ الأقرب لهم أيام المحن، ومازالت تؤازر «بلاد الأرز» في همّهما المشترك المرتبط بأزمة اللجوء السوري الضاغطة على البلدين.
ولم يكن جفّ تهديد نصرالله قبرص بأن فتْح مطاراتها وقواعدها لإسرائيل في أي حربٍ على لبنان «يعني أنها جزء من الحرب وستتعاطى المقاومة معها على هذا الأساس»، حتى أتى ردُّ الرئيس نيكوس خريستودوليديس على التصريح غير «اللطيف» وتأكيده أن بلاده لا تشارك بأي شكلٍ في نزاعات الحرب وأنها «جزء من الحل وليس من المشكلة»، ليعكس أن التوتيرَ مع نيقوسيا لن يتسبَّب بأزمةٍ تترك ارتداداتٍ على العلاقات بين البلدين ومصالح آلاف اللبنانيين في «جزيرة الأمان».
“الغيمة” المباغتة
ومن خلْف هذه «الغيمة» المباغتة، استحضر اللبنانيون خزان ذكرياتٍ عن دولةٍ لم ترتبط صورتها يوماً إلا بأنها «الحضن البديل» عن بيوتاتهم التي اضطروا لترْكها مع كل احترابٍ داخلي وحروب الآخَرين في لبنان أو حربٍ إسرائيلية على الوطن الصغير، وليس انتهاءً بأعتى أزمة مالية وضعتْهم في مهبّ «عاصفة كاملة» أوصلْتهم رياحها مجدداً إلى قبرص التي لطالما شكّلت نقطة جمْع بينهم حين فرّقتْهم المتاريس.
ولا ينسى كثيرون في لبنان كيف صارتْ قبرص أثناء الحرب الأهلية ومنذ أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات من القرن الماضي بديلاً عن بيروت، وكيف حلّ مطار لارنكا مكان مطار العاصمة اللبنانية، وكانت الرحلات البحرية المستحدَثة تتجه من منطقة جونية الى لارنكا لتحمل أبناء «بلاد الأرز» الهاربين والذين لم يستطيعوا الوصول إلى مطار بيروت لأسباب كثيرة.
ويروي أبوروني لـ «الراي»، وكان أحد مشغّلي البواخر في ذلك الزمن، عن تلك الرحلات وما رافَقها من ويلاتٍ قائلاً: «لم يكن هناك مرفأ بالمعنى الحقيقي في منطقة جونية بل مطعم على الشاطئ معروف باسم la criee، وكانت الباخرةُ تقف بعيداً ويتمّ نقْل المسافرين وحقائبهم إليها بالقوارب الصغيرة. بعدها قمتُ بشراء قارب سريع يُعرف باسم(كاتاماران) ووضعتُه على خط جونية – لارنكا ليلبّي الطلبَ المتزايدَ على الرحلات، وكان يتّسع لـ330 راكباً ويسير برحلةٍ ليليةٍ لا تحتاج لأكثر من ثلاث ساعات مطفئاً أنواره تَجَنُّباً لاستهدافه بالقصف. وكان المغادرون من لبنان كلهم سواء من المنطقة الشرقية (ذات الغالبية المسيحية) أو الغربية (ذات الغالبية المسلمة) وفق ترسيمات الحرب حينها يَحملون جواز سفر وتأشيرة دخول إلى قبرص وليس كما هي حال اللاجئين اليوم. وكان الكاتاماران يحمل من لارنكا إلى لبنان كل مَن يريد العودة الى البلد الغارق في الحرب وليس قادراً على دخوله عبر المطار. لكن عدد المغادرين كان أكبر بكثير من العائدين، حيث كان مطار قبرص المحطة الإجبارية والوحيدة المتوافرة أمامهم نحو الوجهات التي يريدونها».
في تلك الفترة نقلتْ الكثير من الشركات اللبنانية والعالمية مكاتبها وفروعها من لبنان إلى الجزيرة القريبة وانتقل معها الموظفون وعائلاتهم، فاستقرّوا هناك، ونشطتْ التجارة بين البلدين، كما نشط التهريب كما يقول صاحب الباخرة «وصار الخط البحري ناشطاً جداً وشبه رسمي وازداد عدد البواخر التي تنقل المغادرين وتم تطوير المرفأ المستخدَم في جونية وتوسعته». ووصل حينها عدد ملفات اللبنانيين العائلية في قبرص إلى 100000، وفق ما تقول سفيرة لبنان لدى قبرص كلود حجل.
ومن مفارقات تلك الحقبة أن الخطّ البحري كان السبيل الوحيد للإتيان بالنواب اللبنانيين الذين كانوا في الخارج إلى بيروت وعادوا لانتخاب الرئيس بشير الجميل حينها وكان ذلك في 21 آب 1982.
ومع عودة السلم إلى لبنان إثر اتفاق الطائف خَمَدَ خطُّ الهجرة وعادت قبرص – رغم غلاء أسعارها بالنسبة للبنانيين – لتكون مقصداً للعطلة والإجازات الصيفية يقصدونها بالطائرة في رحلةٍ لا تتعدى مدتها 45 دقيقة.
“ملاذ آمن”
وخلال حرب يوليو 2006 بين إسرائيل و«حزب الله»، لعبتْ قبرص دوراً حيوياً في إجلاء الرعايا الأجانب من بيروت بواسطة السفن التي رستْ في منطقة ضبية ونقلتْهم إلى الجزيرة ليغادروا منها إلى بلدانهم. كما شكّلت قبرص ملاذاً للبنانيين الهاربين من هذه الحرب الذين استقرّوا في فنادقها طوال شهر يوليو في انتظار انتهاء الأعمال العسكرية التي استمرت 33 يوماً.
وظلت قبرص تجتذب اللبنانيين حيث رأوا فيها مجالاً واسعاً للاستثمار، كما يقول أحد رجال الأعمال ولا سيما في المجال العقاري، إذ كانت أسعار الأراضي فيها العام 2010 منخفضة نسبةً إلى لبنان، ما فتح شهيةً الكثير من المستثمرين والمطوّرين العقاريين لشراء الأراضي وبناء الفنادق والأبراج والمجمعات السكنية، ونشأت عدة شركات عقارية تعمل بين لبنان وقبرص وتمكّنت من تحقيق أرباح كبيرة.
وبحسب رجل الأعمال فقد «بنى اللبنانيون ممالك عقارية في قبرص حين كانت الأراضي لاتزال منخفضة الثمن، لكن عيْن الإسرائيليين لم تكن بعيدة عما يقومون به فعملوا على تعطيل أشغالهم وعرْقلتها ومنْع توفير رخص البناء لهم وصاروا يسابقونهم على شراء العقارات والأراضي».
جورج شهوان، رئيس مجلس الأعمال اللبناني – القبرصي، فصّل لـ «الراي» الوضع العقاري للبنانيين في قبرص قائلاً إن «40000 هو عدد اللبنانيين الذين اشتروا شققاً في قبرص، وثمة 280 مطوراً عقارياً لبنانياً يعمل في الجزيرة على مستوى كبير ومتوسط وصغير. وهناك استثمارات كبرى للبنانيين في قبرص سواء على صعيد العدد أو الحجم المالي. فالجامعة الأميركية في لارنكا كما فرع الجامعة الأميركية في بيروت الذي فَتَحَ أبوابه في بافوس مملوكتان من لبنانيين، وثمة مدرسة كبيرة أنشأها لبنانيون تضم الكثير من أبناء اللبنانيين الموجودين في قبرص وتلامذة قبارصة. كذلك هناك مصارف لبنانية في قبرص مثل Astro Bank ومصرف سوسييتيه جنرال. والاستثمارات اللبنانية في قبرص هي من بين الأكبر، إلى جانب الاستثمارات الإنكليزية والأوروبية والإسرائيلية. أما الروس فقد تراجع وجودهم بعد حرب أوكرانيا نظراً للعقوبات المفروضة عليهم».
ويؤكد شهوان أن الحكومة القبرصية تسهّل الأمور على كل المستثمرين ومن ضمنهم اللبنانيين ولم تقم يوماً بأي تصرف خاطئ تجاههم، موضحاً أنه بعد الأزمة المالية في لبنان ازداد النزوح المالي والاستثماري نحو الجزيرة، ولافتاً إلى أن 20000 شقة بيعت في الأعوام الأخيرة للبنانيين الذين سعوا إلى تهريب أموالهم المحتجزة في المصارف في بداية الأزمة إلى قبرص واستعملوها في شراء الشقق والعقارات وفتْح مصالح تجارية لهم.
ويؤكد كلام شهوان المؤكد لجهة أن قبرص التي هي جزء من الاتحاد الأوروبي استطاعت أن تشكل في الأعوام الأخيرة ملاذاً مالياً آمناً للبنانيين الذين وثقوا بنظامها المصرفي والاقتصادي المتين الذي أثبت أهليته بعد الأزمة التي واجهتْها في العام 2011 وأثّرت على كل القطاعات فيها. لكنها استطاعت الخروج منها واستقطاب استثمارات كبرى من غالبية الدول. ونجحت «الدولة الآمنة» في استقطاب رأس المال اللبناني الذي تمكّن بدوره من جني أرباح كبيرة وتحقيق إنجازات أكبر. ونشأت على إثرها شركات تساعد اللبنانيين على فتح حسابات مصرفية لهم في البنوك القبرصية وفتْح اعتمادات تساعدهم على تسيير شؤون تجاراتهم وأعمالهم.
ومن يسير في شوارع لارنكا بشكل خاص أو في نيقوسيا وايا نابا يجد الكثير من المتاجر والأسماء اللبنانية من سوبر ماركت ومطاعم وكافيهات ونواد ليلية، إضافة إلى الفنادق المملوكة من لبنانيين في الأماكن السياحية الأكثر ازدحاماً. وحتى الأراكيل والتبغ والتنباك باتت لها تجارة مزدهرة بين البلدين.
واستطاع اللبنانيون في قبرص – يُقدّر عددهم بنحو 20 ألفاً – التأقلم بسهولة مع الحياة فيها، كما تروي فاليري شحود التي تتنقل بين قبرص ولبنان «لأن الشعب القبرصي مُسالِم ومضياف، والبلد آمن وجميل ويوفّر كل وسائل الرفاهية والراحة لأبنائه وزواره. حتى أن كلفة المعيشة في الجزيرة باتت أرخص منها في لبنان رغم اعتمادها اليورو. وبالنسبة للتلامذة اللبنانيين يستطيعون متى تعلموا اللغة القبرصية أن يتسجّلوا في مدارس حكومية مجانية».
“الحلم البديل”
ولبنانيو قبرص الذين وَجدوا في الجزيرة التي تَبعد عن وطنهم الأمّ نحو 200 كيلومتر «الحلمَ البديل» بمستقبلٍ آمِن لهم ولأولادهم، أصابَهم القلقُ مع التهديدات التي أطلقها «حزب الله» من أن تكون الأزمات تطاردهم أينما لجأوا.
ولكن رئيس مجلس الأعمال اللبناني – القبرصي جورج شهوان أمل «ألا يتأثر اللبنانيون في قبرص بما يحصل اليوم من تهديدات»، لافتاً إلى «أن القبارصة أوضحوا موقفهم ونفوا كل ما وُجه إليهم من اتهامات. ونحن بدورنا سنحافظ على استثماراتنا وسنتابع أعمالنا ونقوم بكل ما يلزم لإبقاء أوضاعنا مستقرة».