تقارير حرية الصحافة بين استيراد المفاهيم وبين الاستجابة للواقع والحاجات
درجت العادة على ربط الحرية بالصحافة من دون تحديد معنى واضح لحرية الصحافة ومن دون تحديد مفاهيم محددة لقطاع الصحافة ودوره في المجتمع ..
وقد تم اعتماد استيراد المفاهيم الغربية في هذه الشؤون من دون اي انتاج وعي محدد يرتكز الى الثقافة العربية الشرقية والى علاقة الصحافة بالمجتمع وتركيبته وبناه الحضارية والفكرية والثقافية وحاجات التنمية على اختلافها بشرية وسياسية واقتصادية واجتماعية ..
ولذلك تم الخلط بين حرية التعبير وبين حرية الصحافة بما جعلهما على نحو خاطىء وحدة لا تتجزأ وبحيث تم بناء هجين متنوع الاستيرادات للمؤسسات الاعلامية وكذلك تحولات هجينية لهذه المؤسسات على نحو جعلها دائما غير مستقرة تمويلا وبنيانا ومضامين وتوجهات وادوار ….
وقد ادى ذلك دائما الى فجوة والى خوف متبادل في العلاقة بين الصحافة وبين السلطة وبين الصحافة وبين المجتمع وبين الصحافة وبين الاطراف السياسية بحيث تحولت المؤسسات الصحافية و الصحفيون اما الى ابواق واما ذوي ارتباطات متنوعة موالية لاطراف ومعادية لاطراف اخرى ودخلوا عاملا فاعلا اما في تزوير الحقائق او تحويلها او اخفاءها واما عوامل مؤثرة في الانقسامات المجتمعية بحيث يتم اتهامهم بتهديد الاستقرار وصولا احيانا الى العمالة وملاحقتهم بغض النظر عن المعطيات الفعلية المتعلقة بهذه التهمة …
ومن ابرز ما ادى اليه هذا الوضع ايضا هو وجود فصل في التقييم بين المؤسسات الصحافية وبين الصحفيين بحيث لم ينعكس دائما وجود صحافيين ذوي احتراف ومهنية عالية على جعل القطاع الصحافي يتماثل مع هذا الاحتراف وهذه المهنية …وان كان انعكس في مؤسسات محدودة ..
وكان المثال الاعلى بالمفاهيم المتعلقة بالصحافة هي تلك المستوردة و التي يتم التعامل معها كحقائق مطلقة وانها المرجع بالحكم على ممارسة المهنة بحيث تم فرض ضرورة اصدار تقرير سنوي من قبل النقابات المهنية حول الحريات الصحافية ينحصر بانتهاكات “قمع السلطة “وبمدى تضمين القوانين بنودا تمنع انتهاك حرية التعبير وتمنع سجن الصحفيين …
واذا كان صحيحا ان حرية الرأي وحرية العمل الصحفي هي معيار مهم جدا الا انه مع التحول الكبير الذي شهده الاعلام اثر ثورة الاتصالات والتحول الخطير في دور الاعلام من صانع للرأي العام الى صانع للحدث جعل من مسلمة الحريات بمعناها العام مسألة تحتاج الى كثير من التدقيق بحيث باتت الحرية احيانا هي السلاح التي تنتهك فيه السيادة والحقوق المجتمعية على انواعها .. ونورد لتوضيح ذلك مثالين على سبيل الذكر لا الحصر :
-الاول هو استخدام الاعلام و “الحرية” في تزوير الحقائق والمصالح والحقوق لضرب مركزية الدولة في عدد من الدول العربية تحت مسمى الربيع العربي مما جعل “الاعلام صانع الحدث “مسؤولا على نحو كبير عن الدم العربي الذي سال وعن انهيار دول وانظمة وسيادة الفوضى وضرب حقوق شعوب عربية …
-والثاني دور مؤسسات الاعلام الغربي عموما في تزوير واخفاء الحقائق في عملية الابادة الجماعية التي يمارسها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني في غزة وفي الضفة الغربية مما يشكل اكبر انتهاك لحرية الصحافة في المؤسسات الصحافية التي كان الاعلام العربي يعتبرها كما قدمت نفسها مثالا للحريات الصحفية ؟؟!!!
وهذان المثلان يؤكدان ان الحرية الصحفية والاعلامية التي كنا نعتبر انها ميزة الاعلام الغربي هي بالفعل اداة سيطرة وعي على الصحافة عموما وخصوصا في دول العالم الثالث وتعمل تحت السقف السياسي للسيطرة الغربية في مجال الوعي كما هو من ناحية اخرى دور صندوق النقد الدولي والنظام المالي الغربي اداة سيطرة اقتصادية على دول العالم الثالث والدول التي هي في طور النمو …
واقع الصحافة
——————
انطلاقا من كل ذلك يجب اعادة النظر في ما يُسمى” تقرير الحريات الصحفية ” وتحويله الى تقرير يعنى بواقع الصحافة في كل دولة وبما يتضمن :
١-واقع ومشكلات المؤسسات الصحفية والصحفيين
٢- مدى القدرة في ممارسة حرة للمهنة
٣- دور الصحافة في المجتمع لجهة الاستجابة لحاجات صناعة رأي عام بناء لجهة المساعدة في تحقيق التنمية الثقافية والفكرية والبشرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية
٤- مدى ارتباط الصحافة بالخدمة العامة
٥- مدى ارتباط الصحافة تمويلا بالاقتصاد الوطني
٦- مدى تحول القطاع الصحافي الى صناعة متطورة للرأي والوعي العام تؤمن فرص عمل
واقع الصحافة في لبنان
——————————-
كان لبنان من اهم الدول العربية التي عرفت وجود صحافيين ذوي كفاءات مهنية عالية ومميزة وساهمت في نمو الصحافة العربية على رغم تشوهاتها الكبيرة ..
الا ان المؤسسات الصحافية في لبنان كانت دائما ذات ارتباطات خارجية بفعل آليات تمويلها وللدور المشوه للصحافة الذي كان سائدا والمتعلق بالولاءات السياسية واهدافها إن مدحا او تخريبا .
ولما كان تمويل المؤسسات الصحافية يتم بالتمويل الخارجي ولا يرتبط بآلية الاقتصاد الوطني فقد ادى ذلك الى انهيار واضح في واقع المؤسسات الصحافية ادى صعود مؤسسات الاعلام الرقمي الى التخفيف المحدود من كارثيته .. رغم ان الاعلام الرقمي مايزال للاسف يخضع لنماذج التمويل عينها مما يجعل مؤسساته مهددة بالاقفال في اي وقت ويحافظ على نسبة ممارسة سياسة الابواق في نسب كبيرة من ممارسة المهنة
ورغم ما يتعرض له بعض الصحافيين من انتهاكات جزئية لا يمكن القول ان لبنان بلد يمارس التضييق على الحريات بل نشهد العكس .. نشهد حالة من الفوضى والفلتان في ممارسة المهنة “تواكب بنجاح “حالة الفوضى العامة …
ويجب التأكيد ان الانهيار الحاصل في قطاع الصحافة والاعلام ليس ناتجا عن حالة الانهيار العامة بل يجب القول ان حالة الانهيار العامة لم تكن لتحصل لو كان في لبنان صحافة تقوم بدورها المجتمعي الفعلي في صناعة الرأي العام الوطني التنموي ولو لم تكن الصحافة اللبنانية ذات ارتباطات خاضعة لآليات التمويل المعروفة .. ويمكن اعتماد نفس هذه المقاربة في جميع الدول العربية …
قانون الاعلام في لبنان
————————
يجري حاليا البحث في مجلس النواب في اصدار قانون جديد للاعلام وتم تشكيل لجنة مصغرة تتمثل فيها نقابة محرري الصحافة اللبنانية وتدرس مشروع قانون اعد في هذا الشأن وتعمل اللجنة على اعادة النظر فيه …
الا انني لا اتوقع الكثير من هذا القانون في حال النجاح في اصداره كون الهم العام للنواب الذي يصعب تعديله ينطلق من مقاربة الاجابة على : تأمين ضمان حرية الصحافة ( مع الحفاظ على الخلط بين حرية التعبير وبين حرية الصحافة) وشروط الترخيص للمؤسسات الصحافية وضمان الغاء عقوبة السجن في القضايا المتعلقة بالرأي ( وهي مضمونة حاليا ) والسعي الى “دعوات ” للالتزام بسلوكيات المهنة ( غير الواضحة )
في حين ان المقاربة التي يمكن ان تحدث الفرق هي طبعا :
-ضمان حرية ممارسة المهنة مع ما تعنيه المهنة من الاستجابة لصناعة الرأي العام القائمة على خدمة المجتمع وتحفيز التنمية على انواعها
– ضمان تحويل الصحافة الى قطاع انتاجي فكري تنموي
– ربط تمويل المؤسسات الصحافية بالاقتصاد الوطني على اساس ان الصحافة تشكل خدمة عامة
-تأمين فرص العمل انطلاقا من تطوير قطاع الصحافة القائم على تطوير ادوارها وتأمين الحياة الكريمة للصحافيين
– وضع شرعة وطنية للاعلام تحدد الحقوق والواجبات على نحو واضح ويتم وضعها من قبل النقابات المهنية ويتم اقرارها من الحكومة ومجلس النواب وتعتبر مرجعا في تحديد المخالفات والعقوبات …
– علي يوسف –