المولدات تُغْرِقُ بيروت في “مأساة إغريقية”
في بلادِ «الأنفاس المحبوسة» والتي تستوطنها الأخطار كأنها أقدارٌ محتومة، صار الموتُ طليقاً يطاردُ اللبنانيين، تارةً في شكل حروب متهوّرة أو أوضاع أمنية متدهورة أو عقول هوجاء، وطوراً برصاصة طائشة أو سيارة رعناء، والأدهى أنه أصبح «يمتطي» الأنفاس نفسها التي كلّما تَنَشَقّوها كانوا يغذّون «وحش»… الموت البطيء.
لم يشكّ اللبنانيون يوماً في أن شبحَ الموت يَكْمُنُ لهم مُتَنَكِّراً في كل مَرّةٍ بهيئةٍ، أو في أنهم متروكون لقمةً سائغة لتلوّثٍ يتفشّى بصمتٍ وغالباً ما يضجّ بمَظاهر يشيح المعنيون النظر عنها.
ولكن أن يوثّق بحثٌ علمي أنهم أصبحوا فريسةً لهواءٍ خبيث وقاتِل بات معه حتى النفَس الذي يأخذونه جرعةَ سمٍّ مميتة فهذا «جرسُ إنذارٍ» كان له وقْع الصاعقة عليهم من دون أن يرفّ بإزائه جفن سلطاتٍ صارت شريكةً في «جريمةِ قتْلٍ جَماعي» تُرتكب بـ «كواتم صوت».
ففي تقرير لصحيفة «الغارديان» البريطانية نُشر الأسبوع الماضي، كُشف عن خلاصات بحثٍ سينشره علماء في الجامعة الأميركية في بيروت (AUB)، ومفادها أن اعتماد العاصمة اللبنانية على مولدات الديزل بشكل مفرط في الأعوام الخمسة الماضية، ضاعف بشكل مباشر من خطر إصابة السكان بالسرطان، ورفع نسبة الإصابات 30 في المئة في بيروت وحدها، وسط تحذيرات من أن معدلات التشخيص الإيجابي آخذة في الارتفاع.
وهذا البحث يكشف على الملأ ما تؤكده الدراسات البيئية التي تُجْريها الجامعات اللبنانية والملاحظات السريرية التي تَخرج بها المستشفيات بعد ازدياد حالات السرطان على أنواعها نتيجة ارتفاع نسبة التلوث الهوائي.
كما أن هذه الحقائق العلمية جاءت لتسلّط الضوء من جديد على كارثة بيئية – صحية ما عاد في استطاعة اللبنانيين تَجاهُلها رغم كونهم مضطرين لتجرُّع سمومها مع كل نَفَس. فالانهيار المالي (منذ 2019) الذي تَسَبَّبَ في تناقص عدد ساعات التغذية بالتيار عبر مؤسسة كهرباء لبنان جَعَلَ مولدات الأحياء العاملة على المازوت (تفوق 9 آلاف في المدن اللبنانية وحصة الأسد فيها لبيروت) «تدور» بأقصى طاقاتها لتنتشل البلاد من العتمة.
وهكذا صارت كل قطرةِ نورٍ تستولدها «الموتورات» مشحونةً بأقصى نسبة من الانبعاثات الضارة التي تؤدي إلى تخطي نسبة التراكيز المسموح بها عالمياً بأضعاف، لترتسم من خلف هذه المشهدية الكارثية تراجيديا أقرب إلى المأساة الإغريقية بحيث باتت المولدات هي «الداء والدواء»، والمنقذ والجلاّد.
نسبة الإصابة بالسرطان ترتفع 30 في المئة سنوياً في لبنان منذ 2020 وفق ملاحظات الأطباء والمستشفيات، رغم كون إحصاءات السجلّ الوطني للسرطان في وزارة الصحة متوقّفة منذ 2016 وهو لا يوثّق إلا حالات الوفاة الناجمة عن هذا المرض وتالياً لا يمكنه تقديم جردة دقيقة حول عدد الإصابات ومدى ازدياد نسبتها. لكن حتى من دون وجود بيانات مفصّلة يُجْمِع أطباء السرطان على واقع ازدياد الحالات في شكل لافت.
وإذ تصعب إعادة سبب هذا الانفلاش المخيف إلى عاملٍ واحد إلا أن الانبعاثات التي تُصْدِرها مولدات الكهرباء تشكّل بحسب دراسة أجرتها الجامعة الأميركية في بيروت 40 في المئة من مجموع ما يتنشّقه اللبنانيون من ملوثات ضارة تزيد خطر الإصابة بالسرطان.
وتؤكد النائبة في البرلمان اللبناني الدكتورة نجاة عون صليبا لـ «الراي» أن «التلوث في لبنان ازداد ضعفين في العامين الأخيرين وفق دراسة تعدّها(الأميركية)وأن الملوّثات التي تَضاعفت نسبتها رفعتْ في شكل كبير من خطر الإصابة بالسرطان».
«الراي» التقت الخبير الدولي في تلوث الهواء رئيس قسم الكيمياء في جامعة القديس يوسف (اليسوعية) في بيروت الدكتور شربل عفيف للاطلاع منه على العلاقة المباشرة بين المولدات وخطر الإصابة بالسرطان.
وقال عفيف: «أساساً يعاني لبنان وبيروت مشكلة تلوث حيث إن نِسَب التلوّث تتخطى التوصيات العالمية وتزيد عليها من 5 الى 7 مرات في ما يخص الجزيئيات الدقيقة. والملوّث الأخطر هي الجزيئيات الدقيقة التي تقلّ عن 2.5 ميكروميتر المشبّعة بالمواد المسرطنة والتي تدخل الجسم وتبقى فيه».
ويشرح «أن التلوّث في لبنان نوعان: واحد يأتي من خارج الحدود، من تركيا وشمال أفريقيا وشرق أوروبا ومن غبار الصحراء ورياح الخماسين ورذاذ البحر، وهو تلوث تفوق نِسَبه الكمية المسموح بها في التوصيات العالمية ويعود إلى موقع لبنان الجغرافي حيث تحمل الرياح إليه تركيزاً عالياً من الجزيئات الدقيقة والملوّثات التي تصل نسبتها من 40 الى 60 في المئة من مجموع الملوثات الهوائية فيه وفق ما أظهرته دراسات أعدتها جامعة القديس يوسف منذ العام 2020».
ويضيف: «إلى جانب هذه العوامل الخارجية تأتي العوامل الداخلية المسبّبة للتلوّث لتزيد من حدة المشكلة وأبرزها السيارات ومولدات الكهرباء. والانبعاثات الضارة من هذين المصدرين تتوزّع بين أكاسيد النيتروجين وأكاسيد الكاربون والجزيئيات الدقيقة، أي الغبار وما يحمله من حلقات عضوية عطرية PAH تزيد من خطر الإصابة بالسرطان. وتنبعث من المولدات جزيئيات شديدة الصغر أقل من 0.3 ميكروميتر محمَّلة بكميات أكبر من ملوثات PAH المسرطنة كونها صادرة من وقود الديزل».
ويتابع: «مشكلة انبعاثات المولدات ازدادت من ثلاث إلى خمس مرات بعدما أجبرت أزمة الكهرباء المولّدات على العمل لساعات أكثر. ففي بيروت التي كانت المولدات تعمل فيها لـ 3 ساعات فقط تعويضاً عن إنقطاع التيار الكهربائي باتت تعمل من 15 إلى 20 ساعة، ما زاد من كمية الانبعاثات.
وهذه المشكلة تشتدّ حدة في المناطق والأحياء التي تكثر فيها المباني العالية والمتلاصقة بحيث يصبح تشتت الملوثات أصعب فيشتدّ تركيزها وتطول عدداً أكبر من السكان الذين يتنشقون هذه الملوثات المسرطنة مع أنفاسهم».
ويؤكد الدكتور شربل عفيف أنه «حين ازداد استخدام المولدات ارتفع خطر الإصابة بالسرطان، لكن لابد من التأكيد على الفارق بين الإصابة الفعلية بالسرطان وخطر RISK الإصابة به. فنتائج التلوّث الحالي تحتاج من 10 إلى 20 سنة لتظهر مخاطرها على صعيد الإصابة بالسرطان. أما ازدياد الحالات بنسبة 30 في المئة الذي يتحدّث عنه الأطباء ويلاحظونه سريرياً فناجم عن حالات التلوث التي شهدها لبنان قبل الأعوام الخمسة الأخيرة.
ولكن إذا استمرّ تركيز الملوثات بالنِسَب الحالية فلا شك في أن خطر الإصابة بالسرطان وحالاته ستكون إلى تزايد وإلى حد الوصول إلى كارثة ما لم تحدث معجزة ويعود التيار الكهربائي إلى وضعه الطبيعي ونتمكن من السيطرة على الانبعاثات الخطرة والتخفيف من تركيزها في الهواء لتخفيف الخطر. إنما للأسف ما تم تنشُّقه من ملوثات يبقى في الجسم وهو ذو مفعول تراكمي».
ويختم: «خطر الملوّثات لا يقتصر على الهواء الذي نتنشّقه فقط إذ إنها تتساقط على الخضراوات والفاكهة التي نتناولها والنباتات التي يأكلها الحيوان ومن ثم نأكل نحن المشتقّات الحيوانية من لحوم وألبان فيصل تأثير الملوّثات إلى كامل الجسم لا إلى الجهاز التنفسي وحسب. كما أنها تمرّ عبر الجلد وتصل كذلك نحو الأمعاء عبر ما نبتلعه من هواء».
وزارة البيئة كانت قد أصدرت في فبراير 2022 القرار 16/1، والذي يَعتمد قيماً حَدّية جديدة ومحدّثة لخفض الانبعاثات من قطاعيْ الصناعة والطاقة، بما فيها المولدات الكهربائية، يُطبّق على مرحلتين ابتداءً من فبراير 2023، ويأخذ في الاعتبار المعايير والإرشادات العالمية.
وقبل أيام قليلة عاود وزير البيئة الدكتور ناصر ياسين في بيان له التذكير بهذا القرار قائلاً «إن وزارة البيئة أصدرت في سبتمبر الماضي تعميماً يتضمن إرشادات محدّثة وأكثر صرامة في شأن وضع فلاتر للمولدات الكهربائية، وطلبت الوزارة من المحافظين والإدارات المحلية تطبيقها على المولدات الكبيرة والمتوسطة الحجم العاملة في نطاقها وإلزام أصحاب المولدات بتزويد العوادم بنظام فعّال لمعالجة الملوثات الهوائية في شكل فوري وإلزامي مع التقيّد بالحد الأدنى لارتفاع العادم تحت طائلة إيقاف المولدات المخالفة عن العمل».
القرار 116 جيد جداً بالمبدأ كما يشرح د. عفيف وهو يُحاكي معايير سلامة الهواء في الدول المتقدّمة، ومعاودة التذكير به أمر ضروري لأنه يضع الجميع أمام مسؤولياتهم. فالقرار هو الذي يعطي البلديات مرجعية علمية لتتمكن من تنفيذ ما جاء فيه من توصيات.
ويؤكد «أن وضع الفلاتر للمولدات يخفف من الانبعاثات أي من الجزيئيات والمواد العضوية العطرة PAH بنسبة كبيرة، كما أن رفع العوادم أو الدواخين وجعْلها أعلى من البنايات المحيطة يساهم في تشتيت الملوّثات. وتركيب الفلاتر لا يكلّف أكثر من 2 إلى 3 في المئة زيادة على المشترك إذا كان يصعب على صاحب المولّد تحمل الكلفة، لكنها زيادة قد تنقذ حياته حاضراً ومستقبلاً».
الأمل بتخفيف خطر التلوث الناجم عن المولدات موجودٌ إذا تضافرت النيات على تطبيق القانون. والتحرك الرسمي والشعبي بات أكثر من ضروري ولكن هل يُطبّق أصحاب المولدات هذه القرارات هم الذين تحوّلوا أشبه بـ «مافيات» تحظى بحماية سياسية وحزبية في بيروت وغيرها من المدن؟
أحد كبار أصحاب المولدات الذين اتصلت بهم «الراي» لم يَبْدُ متحمّساً مطلقاً لفكرة تركيب فلاتر ويتساءل لماذا لا يطبّقون قرار تركيب فلاتر على دواخين معامل الذوق الحرارية لتوليد الكهرباء هي التي تسبّب بزيادة آلاف حالات السرطان في منطقة كسروان؟ ويؤكد أن «غالبية أصحاب المولدات ركّبوا لها فلاتر ووضعوها في أماكن بعيدة عن الناس حتى لا يتنشّقوا انبعاثاتها. لكن في بلد لا شيء فيه يخضع للرقابة والمواصفات لماذا يتم تحميل المولدات كل الأضرار؟»، ويضيف «على الناس أن يختاروا بين الكهرباء والتلوث. وألا يتناسون قصة التلوث ويتوسّلون صاحب المولد تشغيله إن انقطعت الكهرباء عنهم لساعة أو اثنتين؟».
السرطان بلغ الخطوط الحمر
الأطباء يحذّرون ويرفعون الصوت ورغم عدم وجود أرقام رسمية من وزارة الصحة وفق ما يقول لـ «الراي» الدكتور هامبيك كوريّه الاختصاصي في أمراض السرطان والدم في جامعة القديس يوسف في بيروت. إلا أن الملاحظات العينية تتوافق مع الأرقام التي يتم التداول بها حول معدل زيادة الإصابات.
ويؤكد دكتور كوريه لـ «الراي» إن الارتباط بين تلوّث الهواء وسرطان الرئة بات مؤكداً وفق الجمعية الأوروبية للأورام «وفي لبنان قامت كليتا العلوم والصحة في جامعة القديس يوسف بدراسة مشتركة لإظهار مدى تلوث الهواء في لبنان وارتباطه بارتفاع مختلف أنواع السرطانات ولا سيما سرطان الرئة والمثانة.
وتبين أن لبنان من بين النسب الأعلى في العالم لسرطان المثانة في إحصاء أُعدّ عام 2018. وذلك لأن الملوّثات التي تدخل الجسم ومنها التدخين تصل كلها في النهاية إلى المثانة وهذا ما يبرر ارتفاع معدّلات هذا النوع من السرطان إضافة إلى استعدادٍ جيني مسبق. ويجب عدم التغاضي عن كل الأمراض الصدرية الأخرى و الحساسية الناجمة عن التلوث لا سيما عند كبار السن والأطفال وكل الأشخاص المعرضين للحساسية».
يوافق كوريه على أن ما يشهده لبنان حالياً من حالات سرطانية ناجم عما عاشه قبل أعوام ويقول «إن كوارث صحية حقيقية سيشهدها لبنان في السنوات المقبلة إذا لم يتم اتخاذ تدابير سريعة وفعالة لخفض نسبة التلوث».
ويضيف أن الكلفة الاقتصادية للسرطان ستكون مرتفعة جداً بقدر الكلفة الصحية له ويمكن أن تبلغ مليارات الدولارات «ومن هنا فإن استثمار الدولة في تحسين وضع الطاقة واستخدام الطاقة البديلة يبقى أقل وأوفر من كلفة السرطان عليها».
قد لا يكون لبنان الأعلى نسبةً في السرطان بين بلدان العالم كما يتم الحديث في بعض الأحيان يقول د. كوريه «لكن الصحيح أيضاً أن الأعداد المتداوَلة ليست مرتبطة بالحالات بل بالإحصاءات التي تجريها الدول وبالمعالجة.
وما يمكن الجزم به أن بيروت من المدن التي تشهد نسباً عالية من التلوث، وما يجب التنبه له هو عدم مقارنة لبنان بغيره من الدول بل وضع مقارنة ذاتية بين لبنان اليوم والأمس. وفي هذه الحالة يُلاحظ ازدياد في الإصابات وظهور سرطانات في عمر أبكر. ورغم عدم وجود أرقام رسمية إلا أن الملاحظات العينية مقلقة جداً».
المصدر: الراي الكويتية