أبنية أثرية إلى زوال باسم السلامة العامة.. القانون لا يحمي التراث!
أبنية أثرية إلى زوال باسم السلامة العامة.. القانون لا يحمي التراث!
| راجانا حمية – الاخبار
إلى جانب الخسائر المباشرة من شهداء وجرحى وتدمير المنازل فوق رؤوس سكانها، خلّفت الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان آثاراً غير مرئية تمثّلت في الضرر الذي لحق بالمباني التراثية القريبة من المناطق التي طاولها القصف، ومن بينها مبنيان تراثيان في العقارين 1339 (مساحته 139 متراً مربعاً) و1343 (287 متراً مربعاً) في البسطة (منطقة المزرعة العقارية). فبعد ما ألحقه الزمن والإهمال المزمن بالمبنيين، تكفّلت الحرب بما تبقّى، حيث أدّت الضربات التي سقطت على مقربة منهما إلى انهيار شرفة أحدهما على الطريق العام.
إلا أن هذه الانهيارات لم تحرّك أي جهة مسؤولة، لا بلدية بيروت ولا وزارة الثقافة، رغم أن العقاريْن مُدرجان على لائحة الجرد العام للأبنية التراثية بموجب قرار صادر في كانون الأول عام 2013 عن وزير الثقافة السابق غابي ليون، بما يستوجب حمايتهما، ولو بشكل مؤقت، وما يستتبعه من إجراءات تمنع هدمهما أو تغيير هويتهما بما يؤثّر على النسيج العمراني العام.
إلا أن الأمر على ما يبدو لم يستفزّ أحداً، ففي الظروف الطبيعية، يُفترض أن يكون التحرك الأول من مصلحة الهندسة في بلدية بيروت، التي يتوجّب عليها إعداد تقرير مفصّل عن حالة المبنييْن لاتخاذ الإجراءات المناسبة، إذ إن البلدية هي «الجهة الأساسية الحاضنة والضامنة للمباني التراثية، ولها صلاحية التدخل المباشر بحسب القانون»، كما يوضح المهندس المدني الاستشاري راشد سركيس، موضحاً أن دور البلدية قد يصل إلى «اتخاذ إجراءات تدعيم تحمي المبنييْن مع استرداد التكاليف لاحقاً من خلال وضع إشارة على العقار».
ورغم أن العائق الرئيسي الذي يحول دون التدخل اليوم يعود إلى نقص الموارد المالية، إلا أن هذا التجاهل دفع البعض لربط الأمر بـ«نية مبيّتة» من البلدية تخدم مصالح أصحاب الملكيات، انطلاقاً من أن «هذا المسار ليس جديداً، وقد أدّى في مرات سابقة إلى هدم منازل تراثية». وعليه، لم يتحرّك أحد من البلدية، باستثناء محافظ بيروت مروان عبود، الذي أعدّ مستشاره سركيس تقريراً أشار فيه إلى حجم الضرر.
وبناءً عليه، أرسل المحافظ في 24 كانون الأول الماضي كتاباً إلى قيادة شرطة بيروت يطلب فيه «الإيعاز لمن يلزم لإخلاء العقاريْن 1339 و1343 بالسرعة القصوى حفاظاً على سلامة ساكنيهما والمارّة»، معتبراً أن العقاريْن «مهدّدان بالانهيار ويشكّلان خطراً على السلامة العامة، وخاصة سلامة القاطنين».
وأكّد سركيس أن المبنييْن مُعرّضان لمخاطر بنيوية كبيرة، مشيراً إلى أن صور الشرفة المنهارة التي ضمّنها في تقريره تمثّل آخر ما حدث بسبب الحرب، فيما «هناك انهيارات داخلية لا تظهر من الخارج لكنها حقيقية، ناجمة عن الإهمال المزمن وتسرّب المياه وتآكل البناء، إضافة إلى الترهّل والتلوّث». وأوضح أن «هذه الانهيارات الجزئية دليل على أن السقوط سيستمر بشكل تراكمي»، مشيراً إلى أنه رغم التنسيق بين الإدارات، إلا أن «هامش الحركة ضيق ولا مجال لتسهيل المهمات اللازمة للحفاظ على التراث وصيانته وحمايته من السقوط».
وإثر الكتاب «المعجّل المكرّر» الذي قدّمه عبود، تمّ إجلاء القاطنين من المبنييْن، وهم من العمال الأجانب، وأُلصقت على المبنى ورقة تحذيرية تشير إلى «خطره على السلامة العامة». وأتبع عبود كتابه بقرار يمنع الاقتراب من المبنييْن أو القيام بأي عمليات هدم. وردّ أصحاب الملك، بحسب عبود، بـ«تقديم شكوى بحقّي لدى البلدية».
ورغم مرور نحو ستة أشهرٍ على سقوط الشرفة، لم تتّخذ وزارة الثقافة أي إجراء يُذكر. وإذ تتسلّح الوزارة بقرار ضمّ المبنييْن إلى لائحة الجرد العام للأبنية التراثية والتاريخية، إلا أن مثل هذه القرارات الإفرادية ليست كافية للحماية. كما لم تجر الوزارة حتى الآن أي كشف هندسي، خصوصاً أن المبنييْن، بحسب تقرير سركيس، يحتاجان إلى ترميم. وهو ما أكّده لـ«الأخبار» أيضاً، أحد المعنيين في المديرية العامة للآثار، لكنه أشار إلى أن الوزارة تفتقر للإمكانات المالية اللازمة للقيام بذلك، مُضيفاً: «نعمل على تحريك هذا الملف عبر الحصول على مساعدات دولية، أمّا غير ذلك فلا قدرة لدينا على تنفيذ الترميم».
قانون آثار لا يحمي
لذلك، ثمّة مخاوف مشروعة من أن يتحوّل هذا الإخلاء المؤقت، بذريعة الخطر على السلامة العامة، إلى مقدّمة لتهجير دائم، كما حصل مع كثير من الأبنية التراثية في بيروت، إذ يعمل بعض المالكين في الخفاء للحصول على أحكام قضائية تتيح لهم الهدم، مستفيدين من قانون البناء والمخطط التوجيهي الذي يمنحهم معدلات استثمار مرتفعة.
وهذا الواقع يمثّل العطب الجوهري في جهود الحفاظ على البيوت التراثية والتاريخية، والتي تصطدم دائماً بسياسات عمرانية تُقارب الأمور من زاوية استثمارية بحتة، لا من منظور الحفاظ على هوية المدينة.
ويزيد من عمق المشكلة القصور الهيكلي في الإطار القانوني؛ فعدا الضائقة المادية التي تتحجّج بها الجهات الرسمية لتبرير تقاعسها، تكمن العلّة الكبرى في قانون الآثار الصادر عام 1933، والذي لم يلحظ هذه الأبنية ضمن آليات الحماية، إذ يقتصر تعريفه للآثار على كل ما يعود إلى ما قبل عام 1700. وقد أدّى هذا التحديد الزمني الضيق إلى اقتصار الحماية على عقارات فردية أو معزولة، من دون الاعتراف بأهمية حماية المجموعات البنائية ذات القيمة الفنية والتاريخية والمعمارية المتكاملة، والتي تشكّل جزءاً لا يتجزأ من نسيج المدينة وهويتها.
حماية معلّقة على قرار وزاري
ولأن قانون الآثار لا يشمل ما يعود إلى ما قبل عام 1700، بات الحفاظ على المباني التراثية الحديثة مرهوناً بإدراجها على «لائحة الجرد العام للأبنية التاريخية». ورغم أن هذا الإدراج يفرض قيوداً قانونية، كمنع الهدم أو تعديل البناء من دون موافقة مسبقة من المديرية العامة للآثار، إلا أنه لم يقترن بأي حوافز تشجّع المالكين على الحفاظ على هذه الأبنية. وهو ما جعل من حماية الأبنية عبئاً على أصحابها، خصوصاً أن قوانين البناء الراهنة تتيح لهم مكاسب استثمارية كبرى في حال الهدم. وبالتالي، تحوّل قرار إدراج الأبنية على لائحة الجرد إلى إجراء شكلي منفرد يصدر عن وزير الثقافة، من دون أن يُتبع بأي خطوات فعلية من الدولة لحماية هذا الإرث أو تعويض المتضررين من أصحاب الملك.
بناءً على هذا الخلل، قُدّم عام 2007 مشروع قانون لحماية المواقع والأبنية التراثية، نصّ على حزمة من الحوافز للمالكين، أبرزها: تعويض المالك برصيد يوازي 75% كحدّ أقصى من المساحات التي حُرم من بنائها على العقار الواقع ضمن المنطقة المحمية، على أن يتم هذا التعويض من خلال الترخيص بإضافة بناء في عقارات أخرى، بالإضافة إلى إعفاءات من ضريبة الأملاك المبنية والرسوم البلدية لفترات تصل إلى عشر سنوات. ولكن، رغم إقرار المشروع في مجلس الوزراء عام 2017، إلا أنه لا يزال قابعاً في أدراج اللجان النيابية، من دون أن يُبصر النور حتى اليوم.
في هذا السياق، يُفهم الحراك الذي يقوم به مالكو العقاريْن، والذين يبلغ عددهم، وفقاً للصحيفة العقارية، عشرة أفراد آلت إليهم الملكية بالتواتر، إذ سبق لهؤلاء أن تقدّموا مراراً بطلبات لهدم المبنييْن، قوبلت جميعها بالرفض، ما يثير شكوكاً حول نواياهم الفعلية، خصوصاً في ظل الإهمال الواضح للعقاريْن. ويعزّز هذه الشكوك ما تظهره السجلّات العقارية، حيث سُجّلت بين عامَي 2021 و2022 أربع معاملات بيع وأربع معاملات استثمار على العقارين، في مؤشّر واضح إلى وجود نشاط عقاري متنامٍ.
هذه الوقائع لا يمكن فصلها عن المسار العام لملف الأبنية التراثية، التي تتآكل تدريجياً بفعل السياسات العمرانية المرتكزة على منطق الربح والاستثمار، في ظل حماية قانونية هشّة ومحدودة، غالباً ما تُختزل بمبانٍ متفرّقة ذات قناطر ثلاث وقرميد أحمر. فهل تكفي هذه النظرة المجتزأة لحماية ما تبقّى من هوية بيروت المعمارية والتاريخية؟