من استراتيجية وحدة الساحات إلى فصل المسارات
من استراتيجية وحدة الساحات إلى فصل المسارات
كتب شارل جبور في “نداء الوطن”:
روّج محور الممانعة طويلاً لنظرية “وحدة الساحات”، أي وحدة ساحات الممانعة التي تجمع إيران باعتبارها قائدة المحور مع الحوثي في اليمن و”الحشد الشعبي” في العراق ونظام البعث في سوريا و”حزب الله” في لبنان و”حماس” و”الجهاد” في غزة، والهدف من هذا الترويج ترويع كل من يحاول استفراد إحدى الساحات بالقول إن مواجهته ستكون من الساحات برمتها من أجل ردعه عن التفكير بأي مواجهة من هذا القبيل.
وقد أظهر “طوفان الأقصى” ان الساحة الوحيدة التي ساعدت “حماس” فعليا هي “حزب الله” وبالكاد، لأنه لم يعلنها حرباً مفتوحة، إنما حاول ضبط إيقاعها ضمن بقعة جغرافية محددة، وبالتالي كان متهيباً الحرب وغير قادر على عدم الانخراط فيها، فوجد الحل الأمثل في مواجهة مضبوطة الإيقاع، ولكنه فشل في السيطرة على مجرياتها، فذهب أمينه العام ضحيتها واضطر إلى التراجع عنها خلافاً لما كان أعلنه السيد حسن نصرالله قبل ثمانية أيام من اغتياله بأنه لن يوقف الحرب قبل وقفها على “حماس”.
وأظهرت حرب الطوفان أن “وحدة الساحات” كانت مجرّد شعار تهويلي للدلالة على القوة، ولا يختلف عن الشعارات التي دأب على تردادها بدءاً من توازن الردع، وصولاً إلى أوهن من بيت العنكبوت، وبالتالي كان شعاراً دعائياً لا فعلياً، وهذا لا يعني عدم وجود وحدة ساحات تجمع مكونات محور الممانعة حول هدف واحد، ولكن هذا الهدف كان يقتصر على مزيد من السيطرة على الساحات التي يتواجد فيها من خلال “تكبير الحجر” وتضخيم قدراته في مواجهة واشنطن وتل أبيب، أي كان يستخدمهما كذريعة لتحقيق مشروعه التوسعي في الدول العربية.
ومعلوم أن إيران كانت تتباهى بسيطرتها على أربع عواصم عربية وتحكُّمها بهذه العواصم، وأنها تحوّلت إلى الدولة الأقوى في الشرق الأوسط بتأسيسها سلطنة جديدة، ولم تكن تخفي عزمها على السيطرة على عواصم أخرى، ولكن حساب الحقل اصطدم بحساب بيدر الطوفان فتهاوى المحور وتساقطت الأذرع الواحدة تلو الأخرى.
وخلافاً لاستراتيجية “وحدة الساحات” الإيرانية ، وضعت واشنطن استراتيجية فصل الساحات عن بعضها البعض على رغم قناعتها بأن لمحور الممانعة رأساً مولِّداً ومخطِّطاً ومدبّراً وموجِّهاً هو إيران، إلا أنها قرّرت التعامل مع كل ساحة بشكل منعزل عن الساحات الأخرى، وهذا ما يحصل مع “الحركة” في غزة، ومع “الحزب” في لبنان، ومع “الحوثي” في اليمن، ومع الميليشيات الإيرانية في العراق، ومع إيران نفسها، لأنه على رغم وجود الرأس المدبِّر، إلا أن لكل ذراع قوتها التي تستدعي محاصرتها وتدميرها، كما لكل ذراع مشروعها الخاص بالسيطرة على الساحة التي تتواجد فيها بالتوازي مع انخراطها في مشروع وحدة الساحات المركزي.
ولولا تمكُّن تل أبيب عسكرياً من “حماس” و”حزب الله” ونظام الأسد لما تبنّت واشنطن قرار فصل أذرع الممانعة عن بعضها البعض وتطويقها وإنهاء أدوارها كلها كونها لم تكن مستعدة لتحمُّل كلفة إنهاء هذه الأذرع، أما وأن إسرائيل تكفلّت بالمهمة بفعل حرب الطوفان فلاقتها الولايات المتحدة للتخلُّص منها نهائياً، وبالتالي قرار إنهاء دور الأذرع اتخذ ولا عودة عنه.
ويجب أن يقتنع “حزب الله” بأن المسار الدولي الذي وضِع من أجل لبنان هو مسار مستقل تماماً عن أي تفاوض بين واشنطن وطهران، وأنه لم تعد تفيد سياسة كسب الوقت بانتظار أي متغيرات مقبلة، وبالتالي نجاح المفاوضات النووية أو فشلها أو عدم وصولها إلى النتيجة المطلوبة لن يبدِّل في التوجُّه الدولي لجهة ضرورة إنهاء المشروع المسلّح لـ “الحزب”.
فالقرار بإنهاء الدور التخريبي للممانعة في المنطقة كلها اتخذ بالجملة، ولكن التنفيذ يحصل بالمفرّق، وقد انتهت الساحة السورية قبل غيرها مع رحيل الأسد، والعراق حيّد نفسه، والأذرع الثلاث المتبقية تنازع في موت سريري بطيء، وقد خسرت قدراتها على الهجوم والمبادرة، وأصبحت في موقع ردّ الفعل وإحصاء الخسائر لا أكثر ولا أقل، ولا بل تمسكها بمشروعها يؤدي إلى مزيد من استنزافها من دون أي أفق.
ومن الواضح أن “حزب الله” لم يقتنع بعد، أقله علناً، بأن دوره المسلّح انتهى، وما زال يتذاكى ويناور ويشتري الوقت ويراهن على قدرته على تحمُّل الخسائر، وهو بذلك يفاقم خسائره وخسائر البلد من دون جدوى، لأن دوره انتهى، وإصراره على التذاكي ستكون كلفته كبيرة بالدرجة الأولى عليه.
وإذا كان “حزب الله” ما زال يراهن على المسار التفاوضي بين واشنطن وإيران لينقذ نفسه فهو واهم، وإذا كانت إيران ما زالت تراهن بأن نفض يديها من أذرعها يُبقيها على قيد الحياة بتحويلها إلى أزمات تخص كل ساحة من ساحاتها القديمة، فهي واهمة أيضاً، خصوصاً أن أحداً لا يفاوضها بمصير هذه الأذرع ومستقبلها، والتفاوض معها ينحصر بالنووي، وما سمّي بوحدة ساحاتها يتم التعامل معها على قاعدة تفكيكها وفصلها والقضاء على أي دور عسكري وأمني لها.