اتفاق لبناني – سوري: ضبط الحدود وحسم أمني
اتفاق لبناني – سوري: ضبط الحدود وحسم أمني
كتبت ندى اندراوس في “المدن”:
تعيش الحدود اللبنانية السورية منذ أيام، جولة جديدة من التوتر الامني الذي أعاد إلى الأذهان مشاهد الصدامات التي حصلت منذ سقوط النظام في سوريا، آخرها أحداث حوش السيد علي في قضاء الهرمل.
هذه المرة، اندلع التوتر من منطقة العريض قرب بلدة حوش السيد علي، في أقصى شمال شرقي قضاء الهرمل، بسبب نزاعات متكررة بين عصابات تهريب لبنانية وسورية تقاسمت النفوذ والمعابر بين البلدين على مدى عقود.
الاشتباك الأخير
بحسب ما أفادت معلومات أمنية لـ”المدن” فإن مجهولين لبنانيين، ينشطون ضمن عصابات تهريب، أقدموا على إطلاق قذائف هاون من منطقة العريض باتجاه الأراضي السورية، مستخدمين نقطتين جغرافيتين في العريض لنصب منصاتهم لهذه الغاية. الهجوم جاء نتيجة تراكم خلافات بين مهربين لبنانيين وآخرين سوريين على خلفية تقاسم طرق التهريب وعائداته، ما أسفر عن ردّ سوري سريع تمثل في قصف مدفعي استهدف حوش السيد علي ومحيطها.
ولم تكتف الوحدات العسكرية السورية بالرد المدفعي على مصادر إطلاق النار وتحديدا في منطقة حوش السيد علي، حيث سجلت إصابات بين لبنانيين وسوريين، بل إستخدمت طائرات مسيرة لإطلاق صواريخ بإتجاه أهداف محددة، أصيب جراءها أحد اللبنانيين من آل ناصر الدين. كما عمدت هذه الوحدات إلى نشر دوريات مدرعة وتركيز أسلحة ثقيلة على طول الشريط الحدودي تحسبًا لأي تصعيد إضافي.
في المقابل، تحرك الجيش اللبناني بسرعة ميدانية لافتة. وانتشرت وحدات من اللواء السادس والتاسع والمجوقل وأفواج الحدود البرية، مدعومة بوحدات خاصة، في محيط القرى الحدودية وقامت بتمشيط الأراضي وملاحقة مطلقي القذائف، في ظل قرار رسمي حاسم بإقفال المعابر غير الشرعية ومنع استمرار حالة الفلتان الحدودي.
وأسفرت العمليات عن توقيف عدد من الأشخاص المشتبه بتورطهم بالهجوم. وبحسب التقارير الأمنية، فإن هؤلاء من الخارجين عن القانون من اللبنانيين والسوريين الذين ينشطون في عصابات التهريب من الجانب اللبناني من الحدود، ولا علاقة لحزب الله بما جرى.
في موازاة التحرك الميداني، فُعّلت قنوات الاتصال العسكري والأمني بين الجانبين عبر مكتب التنسيق اللبناني السوري المشترك، وعلى مستوى رفيع بين قيادة الجيش والقيادة العسكرية السورية، مما ساعد على احتواء التصعيد تدريجياً ومنع تفاقم المواجهة. إلا أن الجيش اللبناني لا يزال يواصل تنفيذ دوريات مكثفة وملاحقة المطلوبين، وسط تحذيرات جدية من أن أي إخلال جديد قد يعيد إشعال المنطقة.
تهريب متجذر وصراعات نفوذ
ليست هذه الحوادث معزولة عن سياق أوسع من الصراع الحدودي الطويل. فمنذ عقود، شكلت المناطق الحدودية بين لبنان وسوريا مسرحًا لأنشطة تهريب مزمنة، حيث يعيش جزء كبير من السكان على جانبي الحدود على التجارة غير المشروعة. وقد تصاعدت هذه الظاهرة بشكل دراماتيكي بعد إندلاع الحرب السورية وتفكك بعض مؤسسات الدولة السورية، ما أفسح المجال أمام تنامي نفوذ عصابات تهريب منظمة، وأخرى تابعة لقوى حزبية أو عشائرية، أكان عصابات تهريب النازحين وإدخالهم خلسة إلى لبنان، أو خطوط إمداد حزب الله بالسلاح من إيران عبر الأراضي السورية.
لفتت أوساط ميدانية مطلعة أن حزب الله تمركز على طول الشريط الحدودي بعد عام 2012، خصوصاً في منطقة القلمون، وأقام معابر خاصة خاضعة لسيطرته المباشرة، لتأمين خطوط إمداد لوجستية بين لبنان وسوريا. إلا أن هذا الواقع لم يمنع تنامي ظاهرة التهريب الفردي والعشائري، بل تزايدت الاشتباكات بين المهربين أنفسهم، خصوصًا في مناطق مثل حوش السيد علي، وجرود القاع، والقصر.
الحوادث المتكررة، مثل اشتباك حوش السيد علي الأخير، ليست سوى ترجمة ميدانية لهذا التشابك الهش والخطير بين المصالح المادية لعصابات التهريب وبين الاعتبارات الأمنية الكبرى للدولتين.
بداية مسار جديد؟
على وقع التوترات السابقة والخشية من تكرارها، كانت الوساطة السعودية واجتماع جدّة بين وزيري الدفاع اللبناني والسوري. ومن خلال الاتفاق المبدئي لترسيم الحدود وتعزيز التنسيق لضبط الأمن، كرست ثابتة أن ضبط الحدود بين لبنان وسوريا هو مصلحة إقليمية ودولية لا رجوع عنها، إنسجاماً مع القرارات الدولية ذات الصلة، ولاسيما القرار 1701 و1559، قبل أن تكون مصلحة لبنانية سورية. الاتفاق تضمن إنشاء لجنة تقنية مشتركة لترسيم الحدود. لكنه شدد على إطلاق آلية تبادل معلومات ميدانية فورية لملاحقة المهربين ومطلقي النار، من الطرفين.
تقف الحدود اللبنانية السورية اليوم على مفترق طرق دقيق. فإما أن ينجح الجيشان اللبناني والسوري، بدعم سياسي إقليمي، في فرض الاستقرار، وإما أن تعود العصابات والمصالح المتضاربة إلى إشعال النزاعات الدموية.
وتتحدث مصادر أمنية عن “قرار واضح ونهائي” بإقفال جميع المعابر غير الشرعية في خلال الأشهر المقبلة، مع العمل على ضرب شبكات التهريب بلا هوادة، ولو تطلب الأمر مواجهات ميدانية قاسية مع العصابات المسلحة.
غير أن نجاح هذه الاستراتيجية يبقى رهنًا بعوامل عدة، أبرزها إستمرار الدعم السياسي للجيش اللبناني، ومدى التزام الجانب السوري فعليًا بتفكيك شبكات التهريب داخل أراضيه، وعدم استخدام الفوضى الحدودية كورقة ضغط سياسية في أي استحقاقات مقبلة.
في ظل هذا المشهد، تبدو المرحلة المقبلة حاسمة. فإما أن يتم تثبيت الأمن عبر الحدود برسائل حاسمة ميدانيًا وسياسيًا، وإما أن تبقى المنطقة رهينة لتجدد المواجهات الدامية كلما تعارضت مصالح أمراء التهريب في بلدين أنهكتهما الأزمات الاقتصادية والأمنية على حد سواء.