إسرائيل تغتال الذاكرة والتاريخ… إليكم قصة هذا البيت
“لنا تحت كل قرميدة نبتت قصيدة، وهنا تلا حبيب صادق ومحمد علي شمس الدين وشوقي بزيع والياس لحود وحسن عبدالله ومحمد العبدالله وحسن داود وجان شمعون وسمير قصير وعبد الحميد بعلبكي وشوقي بغدادي وممدوح عدوان وصادق جلال العضم واميلي نصرالله ومريم وتميم البرغوثي ونعوم تشومسكي، وألف أديب وشاعر وفيلسوف ومخرج وفنان تشكيلي ألف صلاة وصلاة”… هكذا عبّر كمال ضاهر، حفيد دارة آل ضاهر التراثية في النبطية، عن حجم الخسارة بعدما طالتها يد العدوان الإسرائيلي ودمّرتها منذ يومين.
فهذه الجدران التراثية العريقة، احتضنت على مدى عشرات السنين حركة ثقافية وسياسية جريئة، ونهضة فكرية ثورية من خلال المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، الذي تحوّل إلى منبر جريء في وجه الاحتلال، وصاحب كلمة شجاعة من أجل المستقبل والتغيير وبناء الدولة.
تضج الذكريات في ذاك المكان، الذي حوّلته غارة حاقدة إلى ركام. هو الشاهد على قامات كبيرة عبّرت تحت قرميده ووسط حجارته المصقولة بأصالة لبنانية، عن حلمها للبنان وعن توقها للحياة رسماً وشعراً وفناً وتاريخاً وإبداعاً.
يستذكر الكاتب والباحث علي الأمين، ابن الجنوب، تاريخ هذا المقرّ كما المجلس الثقافي، موضحاً أن “المبنى ليس ملكاً للمجلس لكنه كان مستأجراً منه”، مضيفاً “كان وقف نشاط المجلس الثقافي في النبطية بحدّ ذاته مؤشراً إلى تراجعٍ بالمناخ السياسي والثقافي بشكل عام. ولكن بمعزل عن ذلك، المجلس الثقافي الذي تأسس عام ١٩٦٤ ضمن مجالس ثقافية وجمعيات تأسست في كل المناطق اللبنانية، بدعم من الدولة اللبنانية في عهد الرئيس فؤاد شهاب، كان الأبرز على مستوى المؤسسات الثقافية في الجنوب، ومن خلاله عُبِّر عن صعود الحالة الثقافية والفكرية والأدبية، بدلالة حجم النشاطات التي قام بها في مناطق عدة ولا سيما في مدينة النبطية”.
ويقول الأمين: “كان يقيم مهرجاناً شعرياً سنوياً، إلى جانب إصداراته. ويرمز الى حد كبير، في الوعي العام، إلى الحيوية الثقافية وصعود تيارات فكرية وسياسية، خصوصاً تحت عنوان اليسار، وفي الوقت نفسه إهتمامه بنبش التراث الجنوبي والعاملي بشكل أساسي. فأصدر الكثير من الكتب والمنشورات فضلاً عن معارض الكتب والمعارض الفنية، وتحوّل إلى منبر الثقافة الأساسي”.
ارتبط اسم المجلس على مدى سنوات بحبيب صادق، ابن مدينة النبطية، الأديب والشاعر والكاتب والباحث والناشط السياسي اليساري، الذي اهتمّ بجمع التراث الأدبي العاملي، بقدر اهتمامه ببناء وطن سيد مستقل، في ثورة الأرز عام ٢٠٠٥ ومؤتمر البريستول، ومحطات كثيرة حمل فيها الكلمة والثقافة سلاحاً وحيداً.
ويشير الأمين، في حديث لموقع mtv، إلى أن “حبيب صادق، الذي تولّى رئاسة الأمانة العامة للمجلس في أواخر الستينات، أضاف حيوية مهمة على مستوى حركته، وتحوّل معه إلى عنوان ثقافي وسياسي واجتماعي مهم. وتحلّقت حوله فئات واسعة ونخب عدة على المستويين الجنوبي واللبناني. وكانت لشخصية صادق الدور الأساسي في هذا الموضوع، لكونه آتياً من عائلة دينية عريقة في جنوب لبنان، ولكونه يسارياً. فجمع العراقة على مستوى الإنتماء للثقافة العاملية بعمقها، وفي الوقت نفسه بهذه النزعة التغييرية التي مثّلها اليسار في فترة معينة. هذا الى جانب طبيعته كشخص التي وفّرت له ان يلعب دوراً أساسياً ومهماً، الى حد تحوّله إلى رمزٍ جنوبيٍّ ثقافيّ يتّسم بالاعتراض والمعارضة وبالحيوية الثقافية والفكرية، والنشاط الذي عبّر عنه كل تاريخ المجلس الثقافي للبنان الجنوبي إلى حين وفاته”.
ويضيف: “بالتالي هناك مرحلة غنية في زمن صادق، جعلت المجلس من أهم المراكز الثقافية في لبنان. وكان الملتقى لكل التيارات الراغبة في التغيير، وكان العنوان الاساسي على مستوى مواجهة الاحتلال الاسرائيلي منذ اجتياح ١٩٧٨ الى ١٩٨٢ ومرحلة المقاومة في الثمانينات، فكان منبراً أساسياً يعبّر عن هذه الإرادة في مقاومة الاحتلال وفي إصدار الكثير من المنشورات الفكرية والفنية والثقافية كما المنتديات واللقاءات والبيانات المتعددة، وهذا ما شاهدناه في محطات عدة أخرى منها الانتخابات النيابية لاحقاً”.
أمام هذا التاريخ، وفي ظل التحوّلات الكبيرة التي شهدتها العقود الماضية، يأتي الاعتداء الإسرائيلي الأخير بكل إجرامه ليرسم صورة قاتمة ويطرح تساؤلات أساسية حول اليوم التالي للحرب.
ويعلّق الأمين على الغارة الإسرائيلية على دارة آل ضاهر وما تحمله من رمزية بالقول: “الضربة الإسرائيلية ترمز الى إرادة لمسح كل ما يشكّل إضاءة في المسار الجنوبي واللبناني العام. ولا أقلّل من شأن هذه الضربة الإسرائيلية، لكن جاء توقيتها في مرحلة كانت تعكس حالة الضمور والتراجع للحياة الثقافية والسياسية. ولعلّ غياب حبيب صادق كان له رمزية خاصة، وكأن هناك شيئاً مات مع موته. وإذا نظرنا الى الحياة الثقافية والسياسية في الجنوب، قبل هذه الضربة الإسرائيلية ومعها، يبدو وكأنها جاءت لتترجم هذا المسار من الانهيار، الذي يؤكد مجدداً أن لا حياة في الجنوب ولا حضور ولا قوة ولا فاعلية إذا لم نعد من مدخل الثقافة ومن مدخل التنوع كعناوين أساسية لأي مقاومة للإحتلال، وعناوين أساسية لأي مشروع بناء وطن ودولة ومجتمع قوّي ومحصّن من كل الاختراقات”.
محطة أخرى أليمة، وطبعاً الحجر ليس أغلى من البشر حيث يسقط يومياً عشرات الشهداء. لكن أن تسقط معالمنا التراثية والثقافية تحت العدوان خسارة لا تُعوَّض، ومعها تسقط ذاكرتنا شهيدة أيضاً.