الإعلام في زمن العدوان الإسرائيلي:

اتساع الحضور العصبي وتضيّق المسؤولية الوطنية

 

 

بقلم الدكتور حسان فلحه – جريدة “النهار”

المدير العام لوزارة الإعلام

 

إن مقاربة العقد الاجتماعي بين عتاة أصحاب الفكر الانطوائي ذوي الرؤية الوطنية الضيقة على انسداد آفاقهم في الأمور كلها، والمفتوحة على مدارك الشهوة الطائفية الشبقة، تستعر مراجل نيرانها عند كل الملمات الغارقة في التمدد على مآسي اللبنانيين المتخمين بلعنة الأزمات المتنوعة، المستقيمة والمتواصلة، لتشعل أوارها الحربُ الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، والتي ما عافت شكلا من أشكال القتل الوحشي إلا ارتكبته، ولم تستثن قدرة هائلة على الدمار إلا استقدرت بها عليهم، حتى أعادت طرح إشكالياتهم المزمنة في عقد الانتماء الوطني والولاء، والنزوع إلى الجوهر الطائفي في التكوين والبقاء، ليعيشوا أزمة الالتباس في الصراع على ضبط الحدود بين حجم الطائفة المتمادي في علة تكوينهم، ووجود المواطنة الضامرة في دواخلهم، القلقة من دورهم في كنف الطائفة نفسها والتوجس من الطوائف الأخرى.

إذا، العقدة ماثلة لا تزول، من إعادة طرح التهميش والارتداد إلى غزوات التحالف من أجل إعادة إنتاج تدوير التهميش في صراع الغلبة والتفرد وإعادة صياغة الأحجام التي تأخذ في لبنان أشكالها الخارجية في سكب الدور وخلع الدرجة والمقام للطائفة بين الطوائف والمذاهب، في بلد متخم بمستدركات الاستقواء بالخارج على الداخل، من دون استثناء .

إن جذوة الصراع بين جوهر اللبناني الإنسان والفرد ومظهره الطائفي والمذهبي، مزمنة وعميقة. الجوهر البيّن في الحقيقة والفطرة، أن اتساع حضور المظهر العصبي يجعله أسيرا لفكرة كيف يبدو في طائفته، لا كما يكون في وطنه .

وإن بعض الإعلام المتنفذ يتعاظم دوره في الأزمات السياسية ليبلغ سدة شأوه في فرض الأبوة على رعاية مصالح الطوائف، حتى يُسقط المحرمات كلها. فما بالك باستغلال الإسرائيلي الحرب على لبنان عموما وفعلا، وعلى الطائفة الشيعية خصوصا وواقعا، بحكم الجغرافيا والسياسة، للفصل بين المقاومة وبيئاتها ذات الطوائف والمذاهب المتعددة؟

وبعض الإعلام الذي يلمز، من حيث ظاهره الحيادي بمساواة الأقدار بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة، تظهر فلتات ما يضمر في عنان خياله لتفضيل الأول على الثانية، فيعيش انفصاما بنيويا بين الترداد الممل لاستعارة المصطلحات ذات السقوف العالية من المثاليات وتقمص الشعارات الفاضلة حتى الاستحالة، والنشوة المكبوتة بالعصبية اللبنانية العميقة التطرف صوب الانحدار إلى أسفل “النحن الجماعية” المتوحدة لنصرة ذات النوع، ونراه يمتلك قدرة فائقة على التملص من نصوص القوانين والأنظمة والتشريعات، على قِدم أحوالها ورتابة جدواها، في اتجاه الجنوح نحو التأويلات المستقيمة أبدا في العرف اللبناني وأدائه. يُنتج هذا المشهد فائضا لدى بعض مؤسسات الإعلام من التنمّر على السلطات التي يعيش أغلب سدنتها عقدة الضوء ونقاء الذات في الصورة، وتوسل عدم حجب أفواههم عن الصوت، لتنقاد بأركانها إلى دوامة الطاعة، فيستقر حالها على خضوع تبريري تسويقي لنظريات ملّها سادتها في الغرب وصنّاعها، مثل تسويغ مساحة الرأي والرأي الآخر على حساب المسؤولية الأخلاقية والوطنية في منع الانزلاق إلى التفلت والتهجم، وليمثّل أرباب هذه النظرية المشوهة الشكل، المطعونة بصحة المضمون، دور الحياد والحارس الأمين للحريات، فتصبح الشراكة ثنائية في ارتكاب شائنة الفعل بين مستقوٍ بلكنته ذات الصوت المرتفع، وطالب طوعا الخضوع لمشيئة الإطار وكنف الصورة. إذ ذاك تسقط هيبة الدولة لتذوي مستقرة على الخط البياني اللبناني الذي تشيع في ذاته عقدة هويته بين اللامحدود والنهائي.

في استطاعة الإعلام تأويل ما يمكن تأويله وتفسير ما يمكن تفسيره، في مقاربة الأمور الداخلية والانحياز إلى أي جهة من جهات الرأي، إلا في موضوع التصدي للاحتلال الإسرائيلي واعتداءاته على لبنان وأهله، والتي فاقت كل وصف، فهو أمر غير قابل للتأويل والاجتهاد والتعليل، ويستطيع الإعلام اللبناني دوما أن يثبت جدارة في التصدي لهذه الحرب النازية على بلدنا، في كفاية لا يجاريه فيها أحد .

إن غلو التسامح في مسارات بعض الإعلام اللبناني المتجاوز أطر الحرية المسؤولة نحو حدود الفوضى، يتسلل إلى البنية التكوينية لإعادة التمعن في جدوى العقد الاجتماعي الفريد عند اللبنانيين، والذي يستوجب الركون الطوعي إلى التزامات أخلاقية واجتماعية لا يمكن أن تكون إلا من خلال عقد – اتفاق يعطي الأفراد حقوقا في إطار الجماعة على حساب حرياتهم الشخصية، طبقا لرأي الفيلسوف الفرنسي جان جاك روسو، وإن كان يعول على أنهم متساوون، وقد اعتبرها الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز “عقدا من الالتزامات المتبادلة”، تحت سلطة مركزية لمنع الانزلاق إلى الفوضى …

Share.
Exit mobile version