لبنان عالق بين المطرقة والسندان
لبنان أمام استحقاقين وطنيين غير قادر على تسديد أي منهما. أحدهما تأخر تسديد فاتورته التي استحقت قبل 17 شهراً وهو الإستحقاق الرئاسي، والثاني قرض فوائده تصاعدية بدأ احتسابها في 8 تشرين الأول الماضي عندما أطلق حسن نصرالله أول صاروخ سقط في ردهة بورصة غزة التي انهارت مع أول ألأبراج التي جرفها طوفان ابتلي به القطاع المنكوب.
فهل يدرك لبنان أنه لا يستطيع، ولن يستطيع، تسديد أيٍّ من القرضين بإمكانياته الذاتية؟ وهل يدرك لبنان أنه لا تستطيع أي قوة إقليمية إقراضه غطاء سياسياً يساعده على تسديد قرضيه، أو أحدهما؟
وهل يدرك لبنان أنه لا توجد رغبة عربية بمساعدته على إزالة دماره والتعويض على انهيار اقتصاده، خصوصاً بعدما استقبل على أرضه الحوثيين الذين اعتدوا، ويعتدون، على عدة دول عربية ويتسببون بارتفاع أسعار السلع في غالبية دول الشرق الأوسط باعتدائهم على الملاحة الدولية في البحر الأحمر؟
وهل يدرك لبنان أنّ ما يمكن أن يخرجه من الإفلاس الوجودي هو فقط قرض دولي ينفذ عبر وكلاء إقليميين يفرضون الإنصياع لرؤية دولية آتية، ولو بعد حين؟
وهل يدرك لبنان أنه يحتاج إلى crisis management إدارة أزمة تحسن معالجة الشأن الإجتماعي للمحافظة على البقاء بانتظار الوصول التدريجي للترياق الدولي غير المتوقع جدياً قبل الثلث الثالث من العام الحالي، وفق رأي دبلوماسي عريق عايش تغير الشرق الأوسط منذ ثمانينات القرن الماضي التي شهدت أهم حربين: الاجتياح الإسرائيلي للبنان الذي وصل إلى العاصة بيروت في العام 1982، والحرب العراقية- الإيرانية أو حرب الخليج الأولى التي إمتدت من العام 1980 حتى العام 1988 عبر جبهة يقارب طولها 1،281 كيلومتراً كان صدام حسين يطلق عليها إسم “البوابة الشرقية للعالم العربي”.
ويقول الدبلوماسي، الذي عرفته خلال عملي في العراق مراسلاً حربياً مسؤولاً عن تغطية الصراع بين عراق-صدام وإيران-الخميني،
“A solution capable of settling Lebanon’s crisis would be sponsored by a super power leading alliance that assigns a regional proxy capable of enforcing it while enjoying the full support of the alliance.”
“إن الحل الذي يحتاجه لبنان سيصدر عن قوة عظمى تقود تحالفاً يكلّف وكيلاً إقليمياً قادراً على فرضه عبر تمتعه بالدعم الكامل من قبل التحالف.”
ويوضح الدبلوماسي أنه بانتظار إقرار الحل والبدء بتنفيذه في لبنان “يجب أن تتولى إدارة أزمة crisis management تنفيذ خطة توفر للمواطن اللبناني ما يحتاجه من social order أي انضباط إجتماعي بما يؤمن للمجتمع الحد الأدنى الذي يحتاجه لحسن سير حياته اليومية بالحد الأدنى من الإزعاج. كالخطة التي نفذها صدام حسين عندما ضبط فوضى السير”.
ذكرتني ملاحظة السفير المتقاعد الذي ما زال يمارس مهاماً إستشارية في دولته بذلك اليوم من شهر تموز العام 1984 عندما إتصل بي قرابة السادسة صباحاً زميلي زوران دوغراماتشيف مراسل وكالة تانيوغ اليوغوسلافية حينها صارخاً “إستيقظ، يوجد إنقلاب في البلد”.
لم أصدق ما قاله زوران، لأنّ مجرد فكرة إنقلاب على الرئيس الراحل صدام حسين غير مرجّحة. إتصلت ببعض الزملاء مستفسراً ومنهم إدريس بوعلام مراسل وكالة الأنباء المغربية وكان سكنه قريباً من منزلي وتم الإتفاق على أن نتجول بسيارتينا في بغداد لاستطلاع ما يجري.
فعلاً كان المشهد يوحي بأمر غير اعتيادي. قرب كل إشارة سير كهربائية كانت تقف شاحنة عسكرية. لكن الغريب كان وجود 4 جنود فقط مع كل شاحنة، سائق و 3 جنود مسلحين ببنادق كلاشنكوف ومزودين بجعب ذخيرة عادية، أي بأربعة مماشط فقط، ما لا يوحي بإنقلاب والإستعداد لمعركة، ولكن بنفس الوقت يوحي بأمر غريب.
أوقفت سيارتي بعيداً وصرت أتابع المشهد. كان الجنود يوقفون أي سائق يتجاوز إشارة السير على اللون الأحمر ويضعونه في شاحنتهم وتتولى رافعة نقل السيارة.
قرابة الساعة 11 تحركت الشاحنة. لحقت بها، إنضمت إلى غيرها، وصرت أتابع قافلة شاحنات، وشاهدت زملاء آخرين بسياراتهم. بقينا نتبع القافلة، وكان الغريب أن لا وجود للشرطة العسكرية في مقدمتها وبعد آخر شاحنة. ولم يمنعنا أحد من اللحاق بالشاحنات على الطريق الجنوبي السريع، ثم إنعطفت القافلة ودخلت الصحراء، ولم نستطع متابعتها. بقينا ننتظر حتى عادت الشاحنات فارغة.
زميلنا العراقي صبحي حداد مراسل وكالة رويتر سأل أحد الجنود الذي صودف أنه من أقاربه أو معارفه فأخبره أنهم أنزلوا السائقين المخالفين في الصحراء على بعد لم يحدده عن الطريق العام.
الحرارة في تموز قرابة 50 درجة مئوية “في الظل” فكيف في شمس الصحراء حيث ينعدم الظل قرابة الظهر.
خلاصة القول أنّ الشرطة أبعدتنا بعد قليل، وعلمنا بالتواتر أنّ من وصل إلى الطريق العام تم نقله إلى المستشفيات، وبعضهم فارق الحياة. لم نعرف ما إذا وجدت شريحة لم تتمكن من الوصول إلى الطريق العام. لم يكن السؤال مستحباً ولا الإستنتاج مطلوباً.
بعد ذلك “الإستجمام” الصحراوي لم يعد أي سائق في العراق يجرؤ على مخالفة قانون السير عموماً وليس فقط الإشارة الضوئية، وهو ما كان يفعله غالبية السائقين سابقاً على الرغم من محاولة ردعهم برفع قيمة غرامة المخالفة.
وصار العراقيون يتداولون طرفة تقول أنّ إشارة السير تعطلت على اللون الأحمر، طلب الشرطي من السائق أن يتابع سيره فرد السائق “خلُها خضرا” باللهجة العراقية أي “فلتتحول إلى اللون الأخضر”، وذهبت مثلاً يعتمد ظُرفاً لكل أمر يتطلب تنفيذه حسماً.
أخذتني الذاكرة إلى حوار مع صديق لبناني من أصول أرمنية في أسواق بيروت قبل أن يدمرها تفجير المرفأ.
خرج الجواهرجي Vahag من معرض المجوهرات حيث يعمل قرب ما عرف بزاوية الإمام الأوزاعي في أسواق بيروت على وقع شجار تبين أنه بين عصابتين تقومان بمهام تأمين مواقف للسيارات، وكنت أنتظر صديقاً في نفس المكان.
نظر فاهاغ بإمتعاض إلى المتعاركين وقال لي بلغته الأرموعربية التي أعشقها: “هيدا بلد بدو واحد صدام، واحد موسوليني، واحد هتلر. بحطن بالبلندر بيعمل واحد زلمي بيمشّى هيدا الشعب على وش بحر”، يعني بالعربية المحكية: “هذا البلد يحتاج إلى نموذج عن صدام حسين ومثله عن موسوليني وهتلر، تضعهم في خلاط، فينتج رجلاً واحداً يجعل هذا الشعب يسير على سطح البحر.”
أرجعتني الذاكرة إلى الشيخ بيار الجميل الجد، مؤسس حزب الكتائب، كان عنده عبارة شهيرة لم أدرك معناها في شبابي إلا بعد ما شاهدت أسلوب صدام حسين في معالجة الفوضى وبعدما عزز فاهاغ قناعتي بنظرية الشدة التي تجعل المرء يمشي على سطح البحر.
كان الشيخ بيار الجد يقول: لبنان بحاجة إلى مستبد عادل.”
دست على الديمقراطية التي أدمنتها في شبابي، لا سيما بدعة الديمقراطية التوافقية التي إبتلانا بها الإستعمار الأسدي، وصرت من مؤيدي نظرية “ظلم بالسوية عدل في الرعية” لأن فوضى الديمقراطية وتفشي وباء الفساد لا يصلحان لحكم قطعان علقت بين المطرقة والسندان.
محمد سلام – هنا لبنان