سحابة الخيار الثالث تتقدّم والرهان على برّي
يهمس نائب فرنسي في الجمعية الوطنية لـ”أساس”: “صحيح أنّ أميركا لم ولن ترفض دعم مؤتمر الجيش اللبناني، لكنّها أبطأته من حيث الشكل. لم ترِد الدخول صراحة في إشكالية تنظيم النشاطات الدعائية. أصرّت على استمرارية الدعم بأسلوبه التقليدي. تحاشت أميركا تفسير مشاركتها ودعمها لمؤسّسة الجيش اللبناني تأييداً صريحاً لقائد الجيش جوزف عون في السباق الرئاسي”.
يرى النائب الفرنسي في حديثه لـ”أساس” أنّ “الإدارة الأميركية فصلت بين فكرة تأييدها التمديد لقائد الجيش ومواظبته على مهامّه، حرصاً على عدم وقوع المؤسّسة في الفراغ، واستمرارية الدعم اللوجستي من جهة، وبين السباق الرئاسي والدستوري الأوّل. تتجنّب أميركا الدخول في التفاصيل. لا تريد إقحام نفسها في لغة الأسماء، أيّاً كانت هذه الأسماء والشخصيات، على الرغم من علاقاتها الجيّدة مع أغلب المطروحين ضمن بورصة التداول. أرادت أميركا من ذلك إيصال رسالة مباشرة إلى إيران. أفسحت المجال أمام المفاوضات غير المباشرة مع إيران. أرادت المحافظة على حسن سيرها لكي لا يضعها ذلك في صدام مع طهران، إضافة إلى تشنّج وكيلها من لبنان واستعصائه. لذلك تحوّل المؤتمر إلى جلسات أوروبية، وكواليس فرنسية مدعومة أميركياً. حيث تمرّر أميركا رسالة مفادها أنّها مع أيّ توافق لبناني. ولن تتدخّل في الشؤون الداخلية اللبنانية. لن تدعم أيّ شخصية، ولم ترفض أيّ اسم، سواء من تدعمه المعارضة، أو من يدعمه محور الممانعة الدائر في الفلك الإيراني، وتركت لفرنسا أمر تحضير المؤتمر”.
الفرنسيون وأزعور
بشكل متوازن فرنسياً، لم يسجّل أيّ لقاء أو تواصل فرنسي رسمي يتعلّق بالاستحقاق الرئاسي اللبناني بين الإدارة الفرنسية والوزير السابق جهاد أزعور. يحظى جهاد أزعور بعلاقات فرنسية مميّزة. فهو مقبول جداً ويتمتّع بثقة دولية وأوروبية عالية. إلا أنّ لغة التواصل لم تتخطَّ ضروريات التعاون الدولي، والمرفقيّ المتعلّق مباشرة بالشقّ الماليّ والاقتصادي والأكاديمي. إذ تحتّم عليه صفته المهنية الاتّصال الدائم والتعاون المستمرّ مع الإدارة الفرنسية والقارّة الأوروبية.
نأت الإدارة الفرنسية أيضاً بنفسها عن الأسماء الرئاسية. وقعت سابقاً في خطأ. لا تريد أن تكرّره. ابتعدت عن التداول في الشخصيات. تتقاطع في ذلك مع دول الخماسية. قرّرت الوقوف مع التوافق اللبناني. تناغمت أكثر مع الإدارة الأميركية.
سحابة الخيار الثالث
يتشكّل في هذه الأثناء في سماء لبنان عبق “سحابة الخيار الثالث” وسط كلّ هذه التنافرات الإقليمية، فيما تحوّل الجنوب اللبناني إلى “جنوب الحدود الإيرانية”. تتكثّف على طريقة التسوية الشاملة. هي واردة في أيّ لحظة. فقصّة نجاح الترسيم البحري خير دليل، لا سيما بوجود التضاربات في المصالح، بين المحلّية اللبنانية، والإقليمية. فهل تسهم هذه الصورة في تكريس أيّ خرق بمفهوم الخيار الثالث؟
هوكستين: برّي هو الـ”Boss“
تحتفظ أميركا ببعض النقاط المتبادلة والمرونة في سبيل التوازن الإقليمي وبهدف المحافظة على الوضعية الاستقراريّة، تحت شعار ضبط حالات “التشنّجات الانتقائية”. فبقاء سيناريو التواصل مع الجميع هو الذي يمنع شموليّة المواجهة وتوسّعها إلى مصافّ الحرب الصريحة.
تتشدّد أميركا في وجه إيران حيناً. تهادنها في معظم الأحيان. تفاوضها باستمرار فوق الدم العربي. تلعب معها الشطرنج إقليمياً. تهدف من ذلك إلى الوصول إلى تسوية شاملة مع حكم الملالي الأصيل. تقدّم لها الإغراءات مناطقياً على أرض الإقليم، فهي التي يستفيد منها فريق الممانعة في لبنان بينيّاً.
تتّصف العلاقة الفرنسية مع الثنائي الشيعي (حزب الله وحركة أمل) بالجيّدة. لدى فرنسا هامش أكبر للرفض والمراوغة وقطع الطريق لا تقوى عليه أميركا. يتفهّمه الثنائي وكذلك إيران. لا يحسبونه عرقلة، بل يرونه أفكاراً للمناقشة. فيما لا تُعتبر الأفكار الأميركية وسلوكها في السياق نفسه. إذ تأخذ العلاقة الأميركية مع محور الممانعة شكلاً حذراً جداً. تغازل الرئيس نبيه برّي “ثاني اثنين في الثنائية الشيعية”، وتصفه بالصفات المنتقاة. علاقتها معه مميّزة جداً، فهو “The Boss” بحسب هوكستين. فيما تضع الفريق الأوّل من الثنائية، أي الحزب، على لوائح الإرهاب.
الجبنة الفرنسية من “العم سام”..
لذا تعتمد أميركا على فرنسا بحكم علاقتها اللينة جداً مع محور الممانعة. مع ذلك، تستطيع على الأقلّ تثقيل بعض الخطوات، ورسم المتاهات. يولي محور الممانعة فرنسا ثقته أكثر من أميركا. إلا أنّه ينتظر الحلول وتناول “الجبنة الفرنسية من العمّ سام”. يظهر قصور الإدارة الفرنسية عن الحسم الكلّي، بغضّ النظر عن ثقة الدولة اللبنانية وحتى فريق الممانعة بصدق نوايا الإرادة الفرنسية ورغبتها في مساعدة لبنان والحفاظ على استقراره. لكن تحتاج إليها أميركا دائماً، فهي الأخرى عاجزة وغير قادرة على بلوغ النتيجة النهائية للتسوية. وهذا هو جوهر التكامل فيما بينهم.
ترسم فرنسا طرق الحلّ والآليّة اللازمة. تعجز عن بلوغ النهائيّات المرجوّة، لكنّه عجز ذو ممرّ إلزامي لتحقيقه. تتدخّل أميركا بنفوذها. تمتلك ميكانيكاً مختلفاً من الترغيب والترهيب. لذا لن تكون التنازلات والمساومات إلا مع أميركا. حتى لو أنّ كلّ الفعّاليات والمبادرات التي تساهم في ربط النزاع واستمرارية التواصل ولملمة قواعد الاشتباك تُركت لفرنسا.
الخيار الثالث يفرض نفسه تمايزاً
تدحرجت أهداف الممانعة الإقليمية من الهدف الإيراني المتمثّل في شطب إسرائيل إلى استعادة وتكوين نفوذ جديد لها. تحوّلت محلّياً في لبنان من محو الكيان إلى تمرير المكاسب في النظام اللبناني مع الإعلان الصريح بدسترة المقاومة البوّابة الدستورية للمثالثة. ما زال البعض يتوهّم حلم صرف الاستثمارات الإقليمية داخل النظام اللبناني. في حين أنّ تعديل النظام يحتاج إلى 15 سنة جديدة من الاقتتال. هنالك خطّ أحمر في لبنان، وهو بقاء طائف المناصفة والشراكة. لا مجال أبداً لصرف أيّ نشاط خارج لبنان وتسييله في الداخل. تتشكّل الآن على الرغم من كلّ السوداوية الواقعية مظلّة دولية وإقليمية لحماية استقراره وديمومته وبقاء صفة لبنان الكبير لدولة 1920 النهائية المساحة وفق صيغة نظام 1990، والحدّ الأقصى هو إجراء تعديلات إدارية وتطبيقه الصحيح. هذا لا يعجب البعض المتغوّل في الداخل اللبناني.
تعمل فرنسا وأميركا ضمناً على التمايز بين أطراف الممانعة، على الرغم من انفتاحهم جميعاً على المبادرات. يربط الحزب تأييده للوزير السابق سليمان فرنجية في السباق الرئاسي بالوضع الإقليمي، مع نظريات الأذرع ووحدة الساحات. بات متمسّكاً بها أكثر بعد أحداث السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2022. يؤيّد الحزب فرنجية بشدّة. لم يبدّل رأيه إلى الآن مع تسجيله انفتاحاً مشكوكاً فيه في هذا الشأن. إلا أنّ الحزب يفاضل وينظر بحسب المكرمات والترتيبات الإقليمية والدولية. يقدّمها على الترتيبات المحلّية. فإذا استطاع الحزب إيصال مرشّحه إلى الرئاسة، كما حصل مع ميشال عون، فهذا مكسب له. أمّا إذا لم تسمح الظروف بذلك، فلن يعطيها أولوية ولن يقدّمها على الترتيبات الإقليمية، ولذا سيرضى بالتسوية. هذا ما تسعى إليه فرنسا.
يعمل الإليزيه على تليين الثنائي من بوّابة الرئيس نبيه برّي الذي يلصق الاستحقاق الرئاسي بالكيانية اللبنانية واستمرارية الطائف. يلبنن الاستحقاق أكثر من شريكه في الثنائية. من جهة أولى تعوّل الإدارة الفرنسية على وطنية الرئيس نبيه برّي وتمايز الوزير السابق سليمان فرنجية عن الرئيس السابق ميشال عون. فالأوّل لم يشخصن الاستحقاق مثل الثاني، وهو مع الطائف على عكس طموحات الرئيس السابق ميشال عون. ومن جهة ثانية على إيمانه بالكيانية والنهائية اللبنانية، حيث تتمحور التسوية أو أيّ اتفاق إقليمي بين اللاعبين الأساسيين حول حماية لبنان بشكله الحالي ونظامه السياسي الموجود من بوّابة الاستحقاق الرئاسي، أي رئيس جمهورية توافقي، حيث تتقدّم هذه التسوية بشيفرة “الخيار الثالث”.
هل يكون الرئيس نبيه برّي ضامن الخيار الثالث؟
وهل يكون الوزير السابق سليمان فرنجية عرّاب الخيار الثالث في سبيل حماية لبنان؟
المصدر – اساس