أخبار دولية

“الغارديان”: النظام الأوروبي يتأكّل

تزامناً مع اجتماع قادتها في بريطانيا، تواجه أوروبا تحديات داخلية وخارجية، ويؤدي جيمس ديفيد فانس، بصفته نائباً لدونالد ترامب، دوره في زيادة الضغط عليها.

انعقدت نسخة جديدة استثنائية عمّا كان يُطلَق عليه “الوفاق الأوروبي” في قصر بلاينهايم، في قلب إنكلترا. واجتمع أكثر من 40 من القادة الوطنيين الأوروبيين، إلى جانب شخصيات بارزة من المؤسسات الدولية الرئيسة في قارتنا، من أجل إجراء محادثات استمرت يوماً واحداً. وهذا هو الاجتماع الرابع فقط للمجتمع السياسي الأوروبي، وهو من بنات أفكار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون. لن يتوصل هذا الاجتماع الاستثنائي خارج الاتحاد الأوروبي إلى أي نتائج مشتركة، لكنه يمثّل مناسبة جيدة من أجل تأمّل الوضع الهش لنظامنا الأوروبي الحالي.

هذه فرصة عظيمة لرئيس وزراء بريطانيا الجديد، كير ستارمر، من أجل إظهار عودة بريطانيا جهةً فعالة في الوفاق الأوروبي، كما كانت على مدى قرون. ويُطلق على مكان الاجتماع اسم “بلاينهايم”، لأن الأرض والمال اللازمين لبناء قصر عليها مُنحا لجون تشرشل، دوق مارلبورو الأول، تقديراً لقيادته معركة “بلاينهايم” عام 1704. وفي حين يتذكر الإنكليز تقليدياً هذا الحدث كونه أحد انتصاراتهم العظيمة على الفرنسيين، إلا أن هذه كانت في الواقع معركة خاضتها القوات البريطانية والهولندية والألمانية والنمساوية والدنماركية بالقرب من قرية بلايندهايم البافارية، من أجل الدفاع عما كان لا يزال يعرف باسم الإمبراطورية الرومانية المقدسة ضد الفرنسيين والبافاريين. باختصار، كانت بريطانيا تتصرف كقوة أوروبية، وتنضم إلى مجموعة من الحلفاء الأوروبيين ضد مجموعة أخرى.

وكانت القضية المطروحة آنذاك، كما هي الحال اليوم، المناصب العليا في أوروبا. ففي حين أن مسألة إعادة تعيين أورسولا فون دير لاين رئيسةً للمفوضية الأوروبية سيتم حلها من خلال تصويت سلمي في البرلمان الأوروبي اليوم، فإن مسألة من يجب أن يكون الملك التالي لإسبانيا حُلَّت في أوائل القرن الثامن عشر بطريقة أوروبية أكثر تقليدية، أي عن طريق الحرب. وعليه، سننتقل من حرب الخلافة الإسبانية إلى “حرب” مجازية بحتة لخلافة بروكسل.

وفي قصر بلاينهايم، تمكّن المضيفون البريطانيون من دعوة ضيوفهم القاريين إلى مشاهدة غرفة النوم المتواضعة التي وُلد فيها ونستون تشرشل، وهو حفيد تشرشل الذي عاش في القرن الثامن عشر، في عام 1874. وأدى تشرشل، الذي عاش في القرن العشرين، دوراً حاسماً في تحرير أوروبا عام 1945، ثم أصبح مناصراً يحلم بأوروبا موحدة مبنية على المصالحة بين فرنسا وألمانيا.

وبالتالي، هذان هما المكان والزمان المثاليان لستارمر من أجل المضي قُدُماً في عملية “إعادة ضبط” العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، التي شرعت حكومته فيها بقوة. وفي بيان مسبق، قال ستارمر: “علينا أن نبذل قصارى جهدنا ونتقدم… حتى تنظر أجيالنا المقبلة إلى الوراء بفخر بسبب ما حققته قارتنا عبر التعاون”.

ومع ذلك، فالحقيقة الصعبة هي أن بريطانيا غادرت الاتحاد الأوروبي، ولا يمكن التراجع عن هذا القرار بسهولة، حتى لو أبدت حكومة ستارمر أي نية في القيام بذلك، وهو ما لم يحدث. لذا، فإن السؤال الأكبر وراء هذا الاجتماع يظل مطروحاً. إذ يُعدّ نظامنا الأوروبي الحالي غير مسبوق في التاريخ، ولا مثيل له في أي مكان آخر في عالم اليوم، فأغلبية الدول الأوروبية هي دول ديمقراطية، وتتجمع في مؤسسات متعددة للتعاون السلمي وحل النزاعات، وأغلبية تلك الدول أعضاء في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، وكلها تقريباً أعضاء في مجلس أوروبا ومنظمة الأمن والتعاون. لكن، هل يصبح هذا النظام أقوى مع استجابته للتهديدات الخارجية والداخلية الجديدة؟ أم أنه بدأ يضعف وينهار، كما حدث مع كل الأنظمة الأوروبية السابقة، عاجلاً أو آجلاً؟

إلى جانب التحديات العامة، مثل حالة الطوارئ المناخية والذكاء الاصطناعي والهجرة، تواجه قارتنا ثلاثة تحديات جيوسياسية كبرى: الولايات المتحدة في عهد رئيسها المقبل المحتمل، دونالد ترامب؛ روسيا برئيسها فلاديمير بوتين تشن حرباً على أوكرانيا؛ عالم ما بعد الغرب، الذي كشفته الحرب الروسية الأوكرانية. فبعد محاولة اغتيال ترامب، ومع إعلان جي دي فانس نائباً للرئيس، يبدو الآن أكثر احتمالاً من أي وقت مضى أن يفوز ترامب بالانتخابات الرئاسية المقرر إجراؤها في الخامس من تشرين الثاني/نوفمبر، وأن يحاول إجبار أوكرانيا على المطالبة بـ”السلام” مع روسيا، ومطالبة الأعضاء الأوروبيين في حلف شمال الأطلسي ببذل مزيد من الجهود للدفاع عن أنفسهم. وفي مقابلة له نُشرت في حزيران/يونيو الماضي، أشار فانس إلى أن اتفاق السلام في أوكرانيا قد يشمل تجميد خطوط التقسيم الإقليمي “في مكان قريب مما هي عليه الآن”، وضمان استقلال كييف و”حيادها أيضاً”. وهذا من شأنه أن يشكل هزيمة لأوكرانيا وانتصاراً لبوتين.

أما بالنسبة إلى الأمن الأوروبي، بصورة أعم، فكتب فانس، في تعليق حديث في صحيفة “فايننشال تايمز”، أن “الولايات المتحدة وفرت غطاءً أمنياً لأوروبا، لفترة طويلة جداً. ومع ملاحظة ضمور القوة الأوروبية تحت الحماية الأميركية، من المنطقي أن نتساءل عما إذا كان دعمنا سهّل على أوروبا أن تتجاهل أمنها”.

وهذا سؤال وجيه. إنه لأمر مثير للعجب أنه بعد مرور أكثر من 80 عاماً على هبوط القوات الأميركية في نورماندي، رفقةَ البريطانيين والكنديين، لتحرير أوروبا الغربية من النازية، لا تزال أوروبا تعتمد، بصورة كبيرة، على ما يسمى “المهدّئ” الأميركي (في اللغة الإنكليزية الأميركية، يعني هذا المصطلح أيضاً دمية الطفل).

واليوم، بات الأمر متروكاً لنا نحن الأوروبيين لتمكين أوكرانيا من تحقيق أمر يمكن أن نطلق عليه، بصورة معقولة، انتصاراً في عام 2025 أو 2026، وتحمّل العبء الثقيل من أجل الدفاع عن أنفسنا. وعلى رغم كل الترحيب، الذي شهدته قمة حلف شمال الأطلسي الأخيرة في واشنطن، بالدعم الغربي لأوكرانيا وزيادة الإنفاق الدفاعي الأوروبي، فإن أوروبا لا تزال بعيدة عن امتلاك الإرادة السياسية الجماعية والوسائل العسكرية اللازمة لتحقيق أول هذه الأهداف بمفردها، كما أن تحقيق الهدف الثاني يشوبه الشك. وبالتالي، فإن فوز بوتين لن يشكل كارثة بالنسبة إلى أوكرانيا فحسب، بل إنه يعني أيضاً زعزعة مزمنة لاستقرار النظام الأوروبي، الذي تأسس بعد عام 1945، بدايةً في الغرب فقط، ثم امتد إلى أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية منذ عام 1989.

وفي الوقت الذي اتحد الغرب عبر الأطلسي، بصورة عامة، من أجل دعم أوكرانيا وفرض عقوبات على روسيا، وجد أن كلاً من الصين والهند وتركيا والبرازيل وجنوب أفريقيا راضية بمواصلة التعامل التجاري مع ذلك المعتدي الاستعماري الجديد. ويَعُدّ كل من الرئيس الصيني شي جين بينغ ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي الرئيسَ بوتين حليفاً مهماً. وباتت هذه القوى العظمى والمتوسطة غير الأوروبية حالياً تتمتع بالقوة الكافية، اقتصادياً وعسكرياً، من أجل موازنة الجهود التي يبذلها الغرب الموحد. لذا، فإن الحرب في أوكرانيا تكشف أننا دخلنا عالم ما بعد الغرب.

وبالنسبة إلى دول العالم، فإن هذا الأمر يسمح بحدوث ما سماه مودي “تعدُّدَ التحالفات”؛ أي تنمية علاقات متعددة ومتغيرة بشركاء مختلفين، سعياً لتحقيق مصالحك الخاصة. وحتى في الداخل الأوروبي، كانت صربيا تفعل ذلك بنجاح كبير، وكذلك فعلت المجر بقيادة فيكتور أوربان، على الرغم من كونها عضواً في الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي، الأمر الذي أحدث صدمة كبيرة. وتشهد الرحلات، التي قام بها أوربان مؤخراً، من أجل مناقشة استسلام أوكرانيا “بسلام” مع الرؤساء بوتين وشي وترامب. وخمنوا أين سيعقد الاجتماع المقبل للمجتمع السياسي الأوروبي، هذا الوفاق الأوروبي المليء بالتناقضات؟ في بودابست في تشرين الثاني/نوفمبر من هذا العام.

ها هي أوروبا، إذاً، تجتمع ليوم واحد في الصالونات المذهبة في قصر بلاينهايم، وهي مشتتة بين التحديات الخارجية التي تخلق ضرورة واضحة لقوة أوروبية أكثر تركيزاً وفعالية، وبين التحديات الداخلية، التي تعني أننا من غير المرجح أن نتمكن من تحقيق هذه الغاية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Powered by WooCommerce