مقالات

استقرار لسعر صرف الليرة في لبنان وفائض في ميزان المدفوعات

استقرار لسعر صرف الليرة في لبنان وفائض في ميزان المدفوعات

حالة الاقتصاد تبدو محيّرة: استقرار لسعر صرف الليرة في لبنان منذ الصيف الماضي. وفائض في ميزان المدفوعات. فيما تعيش البلاد حرباً في الجنوب وشللاً سياسيّاً وجموداً في إنتاج الحلول للأزمة القائمة منذ خمس سنوات. لكنّ الخطر يأتي من الافتراض أنّ الاستقرار النقدي بات معطى ثابتاً، وإغفال المخاطر التي يمكن أن تنسفه.

قد يُنسب استقرار الليرة جزئياً إلى التغيير في حاكمية مصرف لبنان، بانتهاء ولاية رياض سلامة وتولّي وسيم منصوري الحاكمية بالإنابة. وما استتبعه من تغيير في جانبين:

1- أسلوب التدخّل في سوق القطع الذي كان يكتنفه الكثير من الغموض في عهد سلامة. والذي كان من توابعه مراكمة أرباح جائرة لدى النافذين القادرين على الاستفادة من منصّة “صيرفة”.

2- نمط العلاقة بين البنك المركزي ووزارة المالية. بعد سنوات من العلاقة المائعة بين السلطتين النقدية والماليّة. التي كان من مآسيها أنّ الدولة أوغلت في الإنفاق من احتياطات مصرف لبنان بلا حساب. حتى أصبحت الديون المستحقّة له عليها وجهة نظر.

لا شكّ أنّ جزءاً من استقرار سعر صرف الليرة في لبنان يعود إلى انتظام سوق القطع الأجنبي وتوحيد سعر الصرف والتحسّن النسبي في إدارة الماليّة العامة. لكنّ الحقيقة الواضحة أنّ التوازن لم يكن ليتحقّق لولا الفائض في ميزان المدفوعات الذي تجاوز 2.2 مليار دولار في 2023.

هنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الرقم الحقيقي للفائض أقلّ من ذلك بكثير. إذا ما استبعدنا أثر التعديل المحاسبيّ الذي طرأ إثر تغيير سعر صرف الليرة المعتمد في حسابات مصرف لبنان في شباط 2023. لكن في المقابل يمكن الملاحظة أنّ كلّ الأشهر، من حزيران حتى نهاية السنة، سجّلت فائضاً في ميزان المدفوعات. باستثناء تشرين الأوّل الذي شهد اندلاع الحرب على غزة.
بلغ الفائض في هذه الأشهر السبعة أكثر من مليار دولار. وهذا ما أدّى إلى ارتفاع احتياطات مصرف لبنان من النقد الأجنبي إلى أكثر من 9.6 مليارات دولار كما هو مبيّن في منتصف آذار الجاري.

المفارقة أنّ هذا الارتياح في ميزان النقد الأجنبي يأتي في ظلّ الأوضاع الإقليمية المتفجّرة. والسخونة المتصاعدة على جبهة الجنوب. امتداداً إلى البقاع الشمالي. مع ما لذلك من تبعات على حركة السياحة والسفر.

أدّت هذه الأوضاع إلى مراجعة توقّعات النموّ الاقتصادي في العام الحالي. نزولاً من 2.5% إلى 1.3% بحسب المسح الذي تجريه وكالة بلومبرغ لتوقّعات المحلّلين.

ما سبب الفائض؟

إلا أنّ الفائض في ميزان المدفوعات في لبنان يبقى مفهوماً في المنطق الاقتصادي في ضوء جملة من الوقائع والمعطيات:

1- كان العجز الكبير في ميزان المدفوعات في مرحلة ما قبل 2019 عائداً إلى خروج مصروفات الدولة عن السيطرة. خصوصاً بعد إقرار سلسلة الرتب والرواتب. بالإضافة إلى تضخّم مدفوعات الدين الخارجي. وهذا المعطى تغيّر بشكل جذري بعد التوقّف عن سداد دفعات اليوروبوندز في آذار 2020، وانكماش مصروفات الدولة من 17 مليار دولار سنوياً قبل الأزمة إلى 700 مليون دولار العام الماضي. ونحو 3.2 مليارات دولار مقدّرة في موازنة العام الحالي.

2- السبب الأكبر لعجز ميزان المدفوعات في 2020 كان تهريب أموال النافذين إلى الخارج. التي قام مصرف لبنان بتمويلها بنحو 11 مليار دولار من احتياطاته. وقد برّر رياض سلامة ذلك بأنّه تفادى انكشاف البنوك اللبنانية أمام البنوك المراسلة. وقد سبقها تهريب كبير مماثل في 2019، قبل ثورة 17 تشرين وبعدها.

3- أضيف إلى عجز تهريب الأموال تأثيرات جائحة كورونا التي حدّت من تدفّق أموال السياحة في 2020 و2021، وتسرّب العملة الصعبة إلى سوريا عندما كانت حركة التهريب في أوج نشاطها.

4- آخر عجز كبير في ميزان المدفوعات كان في 2022، وكان أيضاً استثنائياً. إذ إنّه ارتبط بقفزة غير طبيعية لحركة الاستيراد إلى أكثر من 19 مليار دولار. نتيجة لعمليات التخزين استباقاً لرفع الرسوم الجمركية. وهو ما أدّى إلى ارتفاع عجز الميزان التجاري إلى 15.6 مليار دولار في تلك السنة.

العودة إلى المنطق

لكلّ ذلك، يمكن اعتبار الفائض في ميزان المدفوعات عودة إلى المنطق والمعقول. في دولةٍ تخلّصت من 80% من فاتورة إنفاقها السنوي. ومن كامل تكاليف خدمة ديونها الخارجية. والتي كانت تزيد على 2.5 مليار دولار سنوياً. علاوة على ذوبان قيمة دينها الداخلي.

أتاحت هذه الفسحة الماليّة والنقدية لمصرف لبنان أن يرمّم احتياطاته إلى حدٍّ ما. وأن يفرض على الحكومة وقف التمويل المنفلت لها من الاحتياطات وأموال المودعين. لكنّ الخطر يكمن في الافتراض أنّ هذا الهدوء النسبي معطى دائم. فمخاطر تجدّد الأزمة النقدية تأتي من جهات كثيرة:

1- أحد أكبر المخاطر أنّ الدولة غير قادرة على النفاذ إلى التمويل الخارجي. لا من خلال صندوق النقد الدولي والمؤسّسات المتعدّدة الأطراف. ولا من خلال أسواق الدين. لذلك هي ملزمة عدم تسجيل أيّ عجز في الميزانية ما دام مصرف لبنان ملتزماً عدم طباعة الليرة لتمويلها. ولا سبيل لتغيير هذا الوضع إلا بالتفاوض والاتفاق مع صندوق النقد وحاملي اليوروبوندز، وكلاهما متعذّر وبعيد المنال.

2- وبالتالي فإنّ الخطر على الاستقرار النقدي يأتي من اضطرار الحكومة إلى زيادة الرواتب والأجور في القطاع العامّ، لتفادي الشلل الراهن في العديد من وزاراته وإداراته. فمع كلّ زيادة يرتفع معروض النقد من الليرة ويزداد الطلب على الدولار، وتعود الدورة السابقة.

3- يأتي خطرٌ آخر من وضع البنوك. فبعد قرابة خمس سنوات من الجمود، لا بدّ من صيغة ما لرفع سقف السحوبات وتوفير بديل عن هرطقة السحب على سعر 15 ألف ليرة للدولار. وهنا سيكون المأزق بين عدم توافر ما يكفي من الدولارات للدفع للمودعين بالعملة الصعبة من جهة، والخوف من زيادة الكتلة النقدية في حال رفع سقف السحوبات بالليرة. وهذا هو أحد أوجه الجدل الراهن حول تطبيق التعميم رقم 166.

4- لا شكّ أنّ الخطر الأكبر يأتي من الأوضاع الجيوسياسية. فالوضع الماليّ والنقدي لا يتحمّل تحوّل المواجهة المضبوطة إلى حرب شاملة.

في هذا الوضع الهشّ، تتصرّف حكومة تصريف الأعمال، ومعها النواب والأحزاب، وكأنّ الوضع القائم مستقرّ إلى ما لا نهاية، ولا يبدي أيٌّ من المعنيّين شعوراً بأنّ أشهر الهدوء الهشّ منذ الصيف الماضي فرصة لفعل شيءٍ ما قبل أن تهبّ العاصفة.

المصدر – أساس

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Powered by WooCommerce