“برزخ” الضاحيّة: بين الرسائل الإسرائيليّة وفرحة العيد المُصادرة
“برزخ” الضاحيّة: بين الرسائل الإسرائيليّة وفرحة العيد المُصادرة
بتول يزبك المدن
ليلة أمس شنّ الطيران الإسرائيلي غاراتٍ تحذيرية عنيفة، أعقبها قصفٌ مباشر استهدف أربعة “مواقع” في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، بحجّة استهداف منشآتٍ تابعةٍ لـ”الوحدة 127 لصناعة المسيّرات”. اشتعلت النيران، وارتفعت سحب كثيفة، فبدا ليل بيروت داكنًا، حزينًا، بينما اللبنانيّون يلملمون جراحهم، ويعلّقون آمالهم المتواضعة على صيفٍ واعد. هذه الغارات شكَّلت أوسع هجومٍ جوي إسرائيلي منذ 27 تشرين الثاني، حاملةً معها رسائل سياسيّة مكثّفة، لم تقتصر على حزب الله وحده، بل امتدت أيضًا إلى الدولة اللبنانيّة التي وُضعت أمام اختبارٍ دقيق.
زحمةٌ خانقة فجرًا… والعودة الصامتة
جالت “المدن” منذ بواكير الصباح في مختلف زوايا الضاحية الجنوبيّة، محاولةً استصراح السكّان وتحليل مخاوفهم، أو التقاط شيء جديد من الليلة الأخيرة المضنية. إلّا أن المشهد لم يختلف فعليًّا عما هو عليه منذ بداية الحرب لنهايتها وحتّى اللحظة، وبالرغم من الصدمة الّتي ولدتها الضربة الإسرائيليّة أمس، عاد غالبية السكّان الذين نزحوا اضطرارًا، إلّا أن هذه المرّة كانت العودة صامتة، غالبًا ما تبدأ بمعاينة مشاهد الدمار وتنتهي بالعودة إلى بيوتهم الّتي ظنّوا منذ ساعات قليلة وحسب، أنّهم قد لا يعودون إليها، اللهم ما خلا بعض أولئك الذين نزحوا مؤقتًا وهم أقلية قليلة.
أُغلقت جميع المتاجر الممتدّة على شارعي الجاموس والحدت إغلاقًا تامًّا. وسارع معظمُ السكان المقيمين في الأحياء المحاذية للمواقع المستهدَفة – وهي أحياءٌ طالها القصف مرارًا إبّان الحرب – إلى معاينة محالّهم التي مُنيت مجدّدًا بأضرارٍ جسيمة طالت، على وجه الخصوص، الواجهات الخارجيّة والداخليّة، نتيجة غارةٍ جويةٍ إسرائيليّة استهدفت ثلاثةَ مبانٍ في المنطقة.
ورصدت “المدن” أحد قاطني الشارع الرئيسي في الحدت، قرب محالّ “أوركا” للألبسة، قال في حديثه إنّه عاد قبل بضعة أشهر فقط إلى منزله بعد ترميمه من أضرار سابقة كبيرة، ليكتشف اليوم أنّ المنزل قد تلاشى تمامًا. وعند المبنى نفسه، أشارت امرأةٌ تُغطّي فمها بحجابها إلى أنّ بيتها دُمِّر من دون أيّ مبرِّر. وأكّدت لـ”المدن” أنّها لم تتوقّع استهداف مبناهم خلال الحرب، لأنّهم يرفضون قطعًا المزاعمَ الإسرائيليّة بوجود مستودعاتٍ للطائرات المسيّرة داخله. وأضافت: “فقدتُ البارحة كلَّ شيء؛ هربتُ دون أن أحمل قطعةَ ثيابٍ واحدة، وخرج ابني حافيَ القدمين، واليوم لا نملك شيئًا”.
أما في برج البراجنة (شارع الرويس)، حيث كانت الأسواق تحاول استعادة عافيتها، يطفو البؤسُ قاسيًا على وجوه الأهالي الذين طالهم الضرر جميعًا، ولا سيّما في ظلّ العمران المتداخل في المنطقة. وتبدو الحركة في الشوارع خافتةً رغم عيد الأضحى، الذي حلّ على الضاحية الجنوبية خجولًا واعتذاريًّا، كأنّه ومضةٌ أخرى من ومضات الحرب؛ لحظةٌ عابرة تستحضر فيها الضاحيةُ المشاهدَ الكارثيّة ذاتَها والمطهّرَ اليوميَّ نفسه.
العيد الذي لم يأتِ: آمالٌ تحطّمت مجددًا
أراد أهل الضاحية عيدًا هادئًا بعد سنتين دمويتين من الحرب، أرادوا أن يعيشوا صيفًا سياحيًّا، وأن يستأنفوا حياتهم التي سُلبت منهم مرارًا. أرادوا تجاوز “تروما” الحرب التي لا تزال حيّة في ذاكرتهم، معتقدين أن إسرائيل لن تتجرّأ مجددًا على قصفهم، لكنها فعلت ذلك بالفعل، لتحرمهم للمرة الثانية في أقل من عام فرحة عيدٍ، بعدما سلبتهم أيضًا عيد الفطر السابق.
في حديثها إلى “المدن” تُشير إحدى القاطنات في المبنى المستهدف في منطقة الرويس، إلى أنّها وعائلتها كانوا قد توجهوا لزيارة قريتهم في بعلبك بمناسبة العيد، بعد ساعاتٍ قليلة، تدمّر منزلهم، وصاروا مضطرين للعيش في بلدتهم البقاعيّة الآن، بعد تدمّر منزلهم. هي شهاداتٌ متكرّرة، ومتشابهة وتحمل نفس الوطأة.
يُذكر أنّه ولحظة نشر جيش الاحتلال الإسرائيلي أوامر إخلاءٍ وبالرغم من حالة الذعر والإرباك بين المواطنين، إلّا أن معظم السكان هذه المرّة لم يغادروا بيوتهم، وبقوا فيها حتى الفجر، وكأنّ عهد النزوح المؤقّت انتهى، بعد أن انعدمت الأماكن البديلة سوى أرصفة الطرقات