وطن الإنتظار.. و”فتات” الكبار!
| جورج علم |
الترقّب سمة المرحلة. تسأل كبيرهم، وعليمهم، كيف سيكون التجديد للقوات الدوليّة العاملة في الجنوب، نهاية آب المقبل؟ فيجيبك: لا تزال هناك أسابيع أربعة، ويخلق الله ما لا تعلمون. وحتى الآن الأجواء مطمئنة، والوزير عبدالله بو حبيب على جناح الطائرة يتنقّل من عاصمة، إلى أخرى، بحثاً عن ضمانات!

تسأل عن مصير مبادرة هوكشتاين حول ترسيم الحدود البريّة؟ فيجيبك: ولوووه…شو عايش بالمريخ… مش شايف الدنيا قايمة قاعدة بأميركا بعد محاولة اغتيال دونالد ترامب، واحتدام المنافسة بين الأحزاب، والمرشحين للرئاسة الأولى؟! مين فاضيلنا الآن.. أو بالو فينا، وسط الإعصار الديمقراطي الذي يضرب العاصمة واشنطن، وسائر الولايات؟!

تسأل عن ورقة ستيفان سيجورنيه، والمبادرة الفرنسيّة، ودبلوماسيّة جان إيف لودريان؟ فيجيبك: زرع الرئيس ماكرون الريح، والآن يحصد العاصفة. أقدم على خطوة متسرّعة، وحلّ مجلس النواب، ودعا إلى إنتخابات مبكرة، وفاز اليمين المتطرّف بالدورة الأولى، فيما فاز بالدورة الثانية اليسار المتطرّف، وهو منهمك الآن في ترتيب البيت الداخلي، وتشكيل حكومة يستطيع أن يتعايش معها “بدون وجع راس” حتى أيار 2027، نهاية ولايته، وبالتالي فإن بند لبنان قد لا يكون مدرجاً في هذه المرحلة، ضمن سلّم الأولويات؟

وتسأل عن الإنتخابات الإيرانيّة، ومدى التأثير الذي يمكن أن تتركه على الأوضاع في لبنان، ومحور الممانعة، و”جبهات المساندة لغزّة”. فيأتي الجواب: الرئيس الإصلاحي لم يؤد اليمين الدستوريّة بعد. ولم يشكّل الحكومة الجديدة. والمؤشرات المتوافر لا تشي بتغيير كبير. “حزب الله” لا يزال على سلاحه، وموقفه، “يستمر القتال في غزّة، نستمر. يتمّ التوصل إلى وقف لإطلاق النار في القطاع، نوقف إطلاق النار في الجنوب”.

ويستمر الترقّب، والإنتظار، كنتيجة لمسار سياسي وطني مأزوم يشكو من خواء كبير. وهو حصيلة حسابات خاطئة، متهورة، تتحكّم فيها الكيديات، والإنفعالات، و”يقرّشها” الخارج في بنك أهدافه، ومصالحه، بإسم المبادرات، والبحث عن تسويات!
وإذا لم تهبّ رياح المفاجأة من النافذة الإقليميّة، أو البوابة الدوليّة، وتحرّك الشراع اللبناني المتهالك، فهذا يعني أن لا انتخابات رئاسيّة في المدى المنظور، أقله قبل الإنتخابات الأميركيّة في الخامس من تشرين الثاني المقبل. ولا حكومة، ولا برنامج عمل إنقاذي، ولا وضوح حول المستقبل، والمصير.

واقع الحال، أن الترقّب يملي على اللبنانيّين ثقافة جديدة، ونمط عيش مختلف، وسلوك إجتماعي مغاير، وعادات لا تمّت بصلة لتلك التي شبّ عليها لبنان منذ نعومة إستقلاله، حتى فورة إزدهاره، وقبل أن يداهمه إصفرار أيلول، ورياح تشرين.

وفي ثقافة الإنتطار، والترّقب، تزدهر مواسم “اللاءات”: لا للحوار. لا للقاء. لا للبحث عن حلول. لا لتدوير الزوايا الحادة. لا لأي تنازل. لا لإنتخاب رئيس للجمهوريّة. لا لتفعيل المؤسسات. لا لإعادة النظر بقانون الإنتخاب. لا للبت في بعض الإشكاليات الدستوريّة… بل توافق مشبوه بين زعماء الطوائف على الإستئثار بما تبقى، لضمان الإستمرار على من تبقى!

ووسط هذا الخواء الوطني الكبير، وفي ظلّه، وما بين دفّتيه، يعتاد المواطن الآدمي على نمط حياة جديد. على أسلوب عيش متحرّر من الإتكاليّة، والتبعيّة، والعبوديّة المزدهرة في محيط الإقطاعي، أو الميليشيوي، أو حديث النعمة… يعمل على تأمين خبزه بعرق جبينه. وعلى توفير المدرسة، والطبابة، وسائر متطلبات الحياة الكريمة، لإقتناعه العميق، بأن لا دولة تحميه، ولا حكومة تنظر بأحواله، وأوضاعه، ولا مؤسسات موثوقة توفرّ له الحد الأدنى من الخدمات البديهيّة، أقله الإستشفاء، والدواء، والتيار الكهربائي، ونقطة المياه، وقسط المدرسة، وكبح جنون الغلاء، ووطأة الرسوم، والضرائب… أن يحلّ المواطن محلّ الدولة، وأن يتصرّف كأن لا دولة يستجير بها، ولا مؤسسات يعود إليها لفضّ كربته، وتأمين حاجته، ولا مظلّة قانون، وعدالة أحكام، ولا سطوة لسلطة عادلة، بل إنحلال على مختلف المستويات، وفلتان نحو فوضى عارمة تنمو وتزدهر في مزارع الفراغ… فهذا يعني الإستعصاء بعينه، والطلاق، والإفتراق…

حتى العصبيّات، وسطوة الميليشيات، وصحوة الفئويّات من أقليات، وأكثريّات، لا يجمع ما بينها سوى “توازن الرعب”، و”الخوف من الآخر”، و”مرّر لي، كي أمرّر لك”.

وبصراحة غير مصرّح عنها، يمكن القول إن “الغالبيّة تنتظر الخارج، وتراهن على عصف يغيّر واقع الحال”. الغالبيّة تنتظر الترياق من “العراق”، ولكل منها، ترياقه، و”عراقه”. الوطن، بالنسبة لمن يمسك بزمام الأمور، مجرّد “بورصة”. و”المضاربون” كثر. والعملاء في سوق الأسهم، أوفياء للمضاربين، أصحاب النفوذ. هذه الغالبيّة لا تستطيع إنتخاب رئيس للجمهوريّة ما لم يأتها الضوء الأخضر من وراء الحدود. وربما الأصح، أن لا مصلحة لها بإنتخاب رئيس. ولا مصلحة لها بإنتظام المؤسسات.

ولا مصلحة لها بقيام الدولة القويّة، القادرة، والعادلة، لأن قيامها سيكون على حساب مصالحها، وعلى حساب شراهتها في إقتسام المداخيل، والمكتسبات.

قد يقال في بعض الصالونات الدبلوماسيّة:”يبقى الرهان على الجنوب المتحرك، للتخلّص من ضجر الترقب، وسأم الإنتظار”. لكن ليس في الجنوب معادلة واحدة، بل “كوكتيل” من المعادلات. هناك “حزب الله”، وأولوياته. هناك مؤسسات الدولة، ولو كانت مترهّلة. هناك الجيش اللبناني. هناك قوات “اليونيفيل”. وهناك القرار الأممي 1701. وطائفة من المبادرات، بهويات أميركيّة، وفرنسيّة، وخماسيّة عربيّة ـ دوليّة. وهناك بترول البحر، وغاز قانا، الذي يحرّك الأنوف والغرائز!

وإذا لم يحرّك الجنوب المتحرّك، الداخل اللبناني المأزوم، المتريث، والمنتظر عند قارعة الدول الكبرى، فإن ثقافة الإنتظار، ستقضي على البقية الباقية من هيكليّة دولة، ومعالم وطن…

 

Share.
Exit mobile version