رسالة إلى الفاتيكان وبكركي
قوة الكنيسة تكمن في جرأتها على مواكبة تطور الإنسان، وفي وضع نفسها في قطار الحياة نفسه سعياً لضبط سرعته بالتوفيق بين الحداثة وبين القيم، وإبقاء مساره نحو المستقبل دائماً، وهذه الكنيسة بالذات من الفاتيكان إلى بكركي، مطالبة بجرأة المراجعة لتجربة بدأت في العام 1920.
ليس المطلوب من بكركي ان تعلن بأنّها أخطأت في سعيها إلى لبنان الكبير، باعتبار انّ ظروف تلك المرحلة فرضت نفسها على أرض الواقع، ولا يفيد بشيء أساساً العودة إلى الماضي والبكاء على الأطلال، فما حصل قد حصل، والخطأ ليس في المساحة الجغرافية، إنما في النظام المركزي لبيئة تعدّدية، ويجب تجاوز هذا المعطى أيضاً من منطلق انّ ما مضى قد مضى، والمهمّ اليوم من بكركي والفاتيكان، الذي يصادف وجود أمين سرّه الكاردينال بيترو بارولين في لبنان هذه الأيام، وبالتالي المطلوب من بكركي والفاتيكان الدعوة إلى خلوة استثنائية روحية ووطنية تحت مسمّى سينودس او غيره، وتخصيصها لمراجعة تجربة تجاوز عمرها القرن، خصوصاً انّ الكنيسة معنية جداً وحريصة حكماً على استمرار الوجود المسيحي في لبنان، وكيف بالحري إذا كانت ظروف مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى وضعت الكنيسة في موقع هندسة لبنان الكبير؟
فالهمّ الأول للبطريرك الياس الحويك في سعيه إلى لبنان الكبير كان بالتأكيد الحفاظ على الوجود المسيحي وتحصينه وتوفير مقومات استمراره الحرّ، وبالتالي همّه مسيحي بامتياز ليس من زاوية إقامة دولة للمسيحيين، إنما ان تشكّل هذه الدولة الحصن الحصين لوجودهم وتجسِّد تطلعاتهم في وطن حرّ ومنفتح ومستقر ومزدهر وحديث ومتطور، وان تكون تتويجاً لمسار نضالي طويل عبر فيه المسيحيون عصور الظلام والاضطهاد والقمع، وبالتالي ان تكون الدولة الناشئة الضمانة لمستقبل آمن لا يشبه جلجلة مسيرتهم التاريخية، فهل حقّقت هذا الهدف، أم انّ الهمّ الوجودي ما زال يلازمهم وكأنّ قدرهم البقاء بيئة قلقة على وجودها واستمراريته؟
فهدف بكركي إذاً من إنشاء لبنان الكبير ليس استحداث تجربة إنسانية علمانية حضارية في هذا الشرق، إنما البحث عن المساحة الأفضل التي باستطاعتها ان توفِّر مقومات الوجود والاستمرار للمسيحيين في هذه البقعة من العالم، والإصرار على هذه النقطة ضروري من أجل أن تتمحور خلوة الكنيسة المطلوبة بإلحاح حول السؤال التالي: هل ما زال لبنان يشكّل المساحة الضامنة لاستمرار الوجود المسيحي؟ وهل معطيات 1920 تبدلّت أم ما زالت نفسها؟ وهل ما كان ما يصحّ منذ قرن ما زال يصحّ اليوم؟ وألا يستأهل آخر وجود مسيحي حرّ في هذا الشرق خلوة في بكركي برعاية الفاتيكان لبحث يتجاوز الرئاسة والشغور والحرب والسلطة إلى ما هو أعمق ويتعلّق في استمراريتهم لقرن جديد وأكثر؟
وقد تخلص الخلوة إلى نتيجة انّه يجب مواصلة المزيد من الشيء نفسه، وقد تخرج بخلاصة مختلفة جذرياً، وفي الحالتين المطلوب من الكنيسة التي عوّدتنا تاريخياً على جرأتها في مراجعة نصوص وطقوس ومقدسات، ان تراجع تجربة لبنان الكبير، ونكرِّر ليس من أجل إدانة ولا تحميل مسؤولية، إنما للتأكيد، ربما، بأنّ معطيات 1920 ومن ثمّ دستور 1926 وبعدها ميثاق 1943 استدعت هذا المسار والتوجّه والسلوك، ولكن معطيات اليوم الديموغرافية والوطنية والسياسية، وبعد مراجعة التجربة الطويلة، تستدعي تغيير المسار والتوجّه والسلوك.
فالكنيسة لا تكابر، وكيف بالحري عندما تكون المسألة مرتبطة بآخر جماعة مسيحية حرّة في هذا الشرق، وفي ظل وجهة نظر متكاملة تنطلق من المعطيات التالية:
المعطى الأول، انّ أي تجربة في العالم سقطت منذ نصف قرن بفعل عوامل داخلية، وما زالت تتخبّط بأزمات وجودية وجوهرية تستدعي معالجة جذرية وليس مواصلة القفز فوق المعضلة البنيوية بمعالجات شكلية ومسكّنات، ولا حاجة لمراجعة الانقسامات العمودية وطبيعتها منذ عقود إلى اليوم، إنما أصبح إجراء مراجعة جذرية لتركيبة النظام في لبنان بمثابة حياة او موت.
المعطى الثاني، انّ الأزمات اللبنانية المفتوحة فصولاً منذ تأسيس الكيان هي أزمات داخلية ناتجة من خلاف عميق في النظرة وردّة الفعل والرؤيا للتطورات السياسية، وهذه الأزمات هي المسؤولة عن استجلاب التدخّلات الخارجية، وبالتالي المسؤولية الأولى والأخيرة في الأزمات اللبنانية المتناسلة لبنانية بامتياز، ومقولة «حروب الآخرين» غير صحيحة، وهي مقولة تجميلية لواقع مريض في موت سريري، وكانت ترمي إلى إبقاء مساحات التلاقي ممكنة.
المعطى الثالث، انّ تجربة التعايش ضمن نظام مركزي بين جماعات أولوياتها المبدئية والقيمية والعقائدية والوطنية والسياسية مختلفة جذرياً، أثبتت فشلها وعقمها وكارثيتها، وأي محاولة لتمديد هذا النظام يعني الإمعان في تمديد الهجرة والموت والخراب والدمار والانقسام.
المعطى الرابع، انّ مقولة لبنان «وطن الرسالة» غير صحيحة، والهدف منها كان تشجيع اللبنانيين على تجاوز انقساماتهم وخلافاتهم من خلال توحيدهم حول مثل عليا، وإعطاء لبنان قيمة مضافة تحضّ شعبه على النضال لرفع معنى بلده من وطن إلى رسالة، ولكن لم يرتق لبنان في الحقيقة إلى مرتبة وطن في ظل الانقسامات العامودية بين مكوناته، والتي حالت دون قيام دولة فعلية، وهو بالتأكيد ليس رسالة تعايش وتفاعل ووئام ومحبة، إنما رسالة عنف وانقسامات وخلافات، يفترض بشعوب العالم استخلاص الدروس منها لتجنيب مجتمعاتهم اللبننة.
المعطى الخامس، انّ النظام المركزي بنسخته الأولى بين عامي 1926 و 1943 ونسخته الثانية في العام 1989 فاشل وغير قابل للحياة في لبنان التعددي، ومن الخطيئة والجريمة الإبقاء على هذا النظام، او السعي إلى تطويره من داخله، فالحل الوحيد إعلان دفن النظام المركزي وموته من دون قيامته، واستبداله بالحدّ الأدنى بنظام لامركزي اتحادي.
المعطى السادس، انّ الوضع السياسي غير المستقر منذ نصف قرن أدّى إلى تهجير شريحة واسعة من المسيحيين، وهذا ما أدّى إلى خلل بنيوي في الميزان الديموغرافي، ولا مؤشرات إلى عودة الاستقرار في ظل النظام المركزي الحالي، وأي غض نظر عن تغيير النظام يعني المساهمة في مزيد من تهجير المسيحيين ومزيد من ضرب الميزان الديموغرافي.
المعطى السابع، انّ الدولة العميقة التي هندسها النظام السوري في مطلع تسعينات القرن الماضي على أنقاض دولة الجمهورية الأولى يستحيل إصلاحها او التعايش معها، وهي تركيبة ينخرها الفساد وأصبحت بلون واحد وتستغل الضرائب التي يدفعها المسيحي لتؤمّن رواتبها ومستحقاتها، وهي تركيبة تشجِّع المسيحيين على الهجرة.
المعطى الثامن، انّ وضع المسيحيين السياسي منذ نصف قرن كان أقوى من اليوم بكثير، وأنّ وضع المسيحيين الديموغرافي والعقاري والاقتصادي منذ نصف قرن كان أفضل من اليوم بكثير، وبما أن لا مؤشرات إلى انّ الموت البطيء سيتوقّف فإنّ وضعهم بعد نصف قرن سيكون كارثة ما بعدها كارثة.
وما تقدّم، لا يعني أنّ تبنّي الكنيسة لنظام سياسي جديد للبنان يتلاءم مع تركيبته التعددية يؤدي إلى ترجمة هذا التبنّي على أرض الواقع، ولكن لموقف بكركي التأثير المعنوي الكبير ليس فقط على مستوى المسيحيين في لبنان، إنما على مستوى دوائر القرار في العالم، فضلاً عن انّ الكنيسة يفترض ان تعبِّر عن تطلعات شعبها، وشعبها لا يريد النظام الحالي.
والمسألة ليست مكابرة ولا استفتاء للمسيحيين حول اي نظام يريدون، لأنّ اي استفتاء يحصل يؤكّد انّ أكثريتهم تريد التقسيم، إنما هناك مسؤولية تاريخية على بكركي والفاتيكان وتتعلّق بالخطر الوجودي على المسيحيين في حال بقاء النظام الحالي، وفي حال لم تتجاوز المعالجات سطح الأزمات من خلال الكلام الخشبي المتواصل عن تعايش وحوار ورئاسة، إنما المطلوب من بكركي والفاتيكان مقاربة الأزمة اللبنانية في عمقها وجوهرها، وهي انّها أزمة تعايش مستحيلة في ظل نظام مركزي.
ومن قال أساساً انّ التعايش لا يصحّ في نظام لا مركزي او دول منفصلة، ولا بل التعايش الفعلي يتمّ في الدول المنفصلة، حيث لا تسعى اي مجموعة إلى فرض خياراتها على المجموعات الأخرى، ويجب قبل اي شيء الإقرار بأنّ التجربة الممتدة منذ العام 1920 جُرِّبت وأعطت ما أعطته وحان الوقت لتجربة جديدة تعيش فيها كل جماعة بشكل منسجم مع خياراتها ورؤيتها. وكل الكلام عن الصيغة الواحدة والتعايش والفولكلور هو غش ما بعده غش، وأصحابه يضمرون شراء الوقت بهدف التخلُّص من التعددية وصولاً إلى حكم العدد.
وكل التمنيات بإقامة مريحة للزائر الرسولي الكبير، ولكن حان الوقت لخلوة كنسية برعاية فاتيكانية وبطريركية بعنوان «المسيحيون 3024»، اي وضع رؤية للمسيحيين في لبنان لقرن من اليوم، وهذه الرؤية لا تكون بانتخاب رئيس ولا بالتواصل مع شريك، إنما تكون بتبنّي توصية وتوجُّه بضرورة إعلان موت النظام الحالي والحضّ على نظام سياسي جديد يتراوح بين الاتحادية وبين الانفصال، وما دون ذلك ستحمِّل كتب التاريخ في 3024 الفاتيكان وبكركي مسؤولية زوال المسيحية المشرقية، وتحديداً في آخر بقعة في لبنان كانت فيه مثالاً للحرّية والحضارة والحداثة والقوة والعنفوان، خصوصاً انّ هناك مسؤولية تاريخية على بكركي تتطلّب منها قبل غيرها إعلان وفاة جمهورية 1920 والدعوة إلى جمهورية حياة، جمهورية 3024 لضمان الوجود المسيحي الحرّ في لبنان والشرق.
شارل جبور – الجمهورية