إلغاء تجريم القدح والذم: هل يُنصف قانون الإعلام الجديد الصحافيين؟
يكفل الدستور اللبناني حرية التعبير “ضمن دائرة القانون” إلا أنه في السنوات الأخيرة بدا واضحًا كيفية استغلال السلطة اللبنانية قوانين القدح والذم بشكل فاضح ومتزايد لكمّ الأفواه والتضييق على الحريات والتعامل مع الكلمة على أنّها عدوّ يلزم مجابهته بالقوة والعنف.
ورأى جو ستورك، نائب مديرة قسم الشرق الأوسط في هيومن رايتس ووتش، في تقرير أصدرته المنظمة بعنوان “الحكي عليه جمرك: تجريم التعبير السلميّ في لبنان”، أن قوانين القدح والذم الجزائيّة هي سلاح فتّاك بيَد من يُريد إسكات الانتقاد والنقاش بشأن القضايا الاجتماعية والحقوقية الملحّة في هذه المرحلة المفصلية، وينبغي على المسؤولين اللبنانيين حماية حرية التعبير وليس خنقها.
تتذرع السلطة اللبنانية دائمًا بقوانين التحقير والقدح والذم لتحجيم الكلمة الحرّة ومحاربة كاشفي الفساد عبر فرض أحكام بالسجن، قد تصل مدتها إلى ثلاث سنوات، إذ يجرّم قانون العقوبات اللبناني في المادة 384 تحقير رئيس الجمهورية أو العلم أو الشعار الوطني بالسجن من 6 أشهر إلى سنتين، كما يُجيز بالحبس لمدّة سنة كلّ من يقوم بالتحقير والقدح والذمّ بحقّ الموظفين العموميين، استنادًا إلى المواد 383 حتى 386 منه، في حين يجرّم قانون القضاء العسكري تحقير العلم أو الجيش، ويعاقب عليه بالحبس حتى ثلاث سنوات.
هذا الواقع تُقابله مناقشات مكثفة تجريها اللجنة المصغّرة المنبثقة من لجنة الإدارة والعدل لمشروع قانون الإعلام الجديد. هو اقتراح شهد مدًا وجزرًا وتأخيرًا لسنوات طويلة قبل أن تُفعّل النقاشات من جديد بهدف إقراره ليكون متلائماً مع التطور الإعلامي الحاصل.
ويُعوّل المجتمع المدني والناشطون على تعديل القوانين المجحفة بحق الصحافيين وكاشفي الفساد، خصوصًا في ما يتعلق “بإلغاء الأحكام الجزائية” التي لا تزال تعتبر من البنود الخلافية حتى الساعة، ويتخوف البعض من الإبقاء على هذه الأحكام كما جاءت في النسخة الأخيرة المقدّمة من اقتراح القانون وعدم استبدالها بأحكام مدنيّة.
رئيسة جمعية “مدراء مؤهّلون لمكافحة الفساد”، والنقيبة السابقة لنقابة خبراء المحاسبة المجازين في لبنان جينا الشمّاس، من الشخصيات التي استدعاها مكتب جرائم المعلوماتيّة لأكثر من أربع مرات، ورُفع بحقها أكثر من خمس دعاوى نتيجة كشفها لملفات فساد في لبنان. وتقول الشمّاس لـ”النهار” “لم أتهجّم على أحد، ولم أتطاول على أيٍّ من الشخصيات السياسيّة؛ كلّ ما قمتُ به أنني كشفتُ في حديث إعلامي عن معلومات حول تحويل بعض السياسيين مبالغ مالية إلى الخارج أو سحبها نقدًا من المصارف في فترة قصيرة قبل انهيار القطاع المصرفي، أي قبل شهر أو شهرين من ثورة 17 تشرين الأول 2019”.
وتضيف الشماس: “القضاء تحرك مع السياسيين ضد محاربي الفساد، ولم يتحرّك عندما تمّ تهديدي بالعلن في مقابلة على إحدى محطات الراديو اللبنانية. ولكنني لم أتهرب من المثول أمام المحكمة بالرغم من كل الضغوطات التي مورست آنذاك بحقي بغية ترهيبي وتخويفي، أو التحايل في تبليغي دعوى على حائط بيت أهلي في الأشرفية بدلاً من محل إقامتي”.
“إنّ معاهدة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد تحمّل الدولة اللبنانية والقضاء اللبناني مسؤولية مكافحة الفساد والكشف عنه، التحقيق فيه، المساءلة والمحاسبة والمحاكمة، وعدم السماح بالإفلات من العقاب، كما أن الحكومة اللبنانية أقرّت استراتيجية وطنية لمكافحة الفساد في أيار ٢٠٢٠؛ وعليه لقد أبلغنا القضاء ما نعتقد أنه فساد كما ورد في قانون حماية كاشفي الفساد”.
ونتيجة لذلك، طالبت الشمّاس القضاءَ بأن يتحرك لمعرفة من هي الجهة التي أبلغت المسؤولين عن تهريب أموالهم، ومن تواطأ ضد لبنان والقطاع المصرفي وأموال المودعين للكشف عن أكبر جريمة مصرفية. لكنه لم يفعل، ولم يحاسب أي مسؤول لتاريخه. وبدلاً من مكافحة الفاسدين، يساهم القضاء في ملاحقة مكافحي الفساد والكاشفين عنه.
التذرع بالقدح والذم لتكريس القمع
في جميع القضايا الجزائية المتعلقة بالقدح والذم، التي حققت فيها هيومن رايتس ووتش، تصرّفت السلطات بطرق أشارت إلى تحيّز لصالح الأفراد النافذين الذين رفعوا الدعاوى، حيث أُسيء استخدام قوانين القدح والذم كأداة للقمع وبطريقة انتقائية.
يرى الخبير القانوني المحامي سعيد مالك أنه “من الثابت والأكيد أن جرائم القدح والذم منصوص عليها في قانون العقوبات اللبناني، إلا أن للصحافيين والإعلاميين وضعاً خاصّاً. والقانون قد نصّ صراحةً على أن هذه الجرائم تُعاقب عليها محكمة المطبوعات حيث تصدر أحكاماً مخفّفة بحق هذه الفئة، لكون القدح والذم يُعتبر عندها ضمن جرائم الرأي والتعبير”.
ومع ذلك، يؤكد مالك أنه “يقتضي اليوم إلغاء هذه العقوبات أو التخفيف من شأنها. ولكن في المقابل يقتضي على الإعلاميين التمتع بكلّ مسؤولية تجاه طريقة التعاطي مع كلّ ما ينشرونه عبر وسائل الإعلام. وعليه، إن استدعاء الصحافيين أمام الضابطة العدلية لا يستقيم لكون القانون ينصّ على وجوب أن يُصار إلى التوجه نحو محكمة المطبوعات. وبالتالي، إنّ تعاطي السلطة مع الصحافيين هي مخالفة للقانون بحيث يجب استدعاء الصحافي إلى محكمة المطبوعات وليس إلى المحكمة الجنائية”.
التعويل على اقتراح القانون الجديد لإلغاء العقوبات السجنية
يؤكد المحامي فاروق المغربي أن “اللجنة المصغرة المنبثقة عن لجنة الإدارة والعدل تعمل جاهدة لإلغاء العقوبات السجنية من قانون العقوبات المتعلقة بالقدح والذم والتحقير واعتبارها جرائم مدنية، وفقًا لقانون الموجبات والعقود، ولأن يكون هناك محكمة ابتدائية مدنيّة تنظر في قضايا الإعلام”. وفي انتظار مناقشة هذه البنود والمحاور وتقديمها إلى لجنة الإدارة والعدل، التي قد تجري تعديلاتها أيضًا، يتمنّى المغربي أن يتم الأخذ بكلّ هذه التعديلات المنشودة، خاصة أنّ هناك تقدّماً إيجابياً في هذا الموضوع، إذ إن كافة النواب أعضاء اللجنة متوافقون على ضرورة إلغاء العقوبات السجنيّة بحق الصحافيين.
من منظومة جزائية إلى مدنية؟
حول سؤال هل من الممكن التحول من منظومة جزائية إلى منظومة مدنية؟ ترى الناطقة باسم منظمة العفو الدولية رينا وهبي أنه يمكن ذلك، فالعقوبات الجزائية على التحقير والقدح والذم تتعارض مع المعايير الدولية لحرية التعبير بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان، ولا يشكّل التحقير جريمة، والسجن ليس عقوبة مناسبة للقدح والذم. وتشدّد وهبي على أن قانون الإعلام الجديد فرصة لمجلس النواب لإجراء تعديلات تحمي حرية التعبير والعمل الصحافي والإعلامي من الاستخدام المتزايد لموادّ القدح والذم والتحقير كسلاح غبّ الطلب بوجه المنتقدين.
ولكن كيف يمكن إجراء هذا التحوّل؟
تؤكّد وهبي أن التحوّل يكون من خلال إلغاء المواد في قانون العقوبات و#قانون المطبوعات وقانون القضاء العسكري التي تجرّم التحقير، واستبدال المواد المتعلقة بالقدح والذم بأحكام مدنية جديدة. فيكون بالتالي للمتضرّر من خطاب ما اللجوء إلى محكمة مدنية للمطالبة بالتعويض، على أن يكون التعويض الممنوح يتناسب تمامًا مع الضرر الفعليّ الناتج من الفعل في حال الحكم لصالح المُدّعي. ويجب اعتبار الحقيقة دفاعًا مقبولًا تمامًا وفاصلاً في قضايا التشهير، وفي قضايا المصلحة العامة. يكفي أن يكون المدعى عليه قد تصرّف بالعناية الواجبة لإثبات الحقيقة.
أما التجريم فيجب أن يُحصر بالخطاب الذي يرقى إلى مستوى الدعوة إلى الكراهية القوميّة أو الدينيّة التي تشكّل تحريضاً على العنصرية أو على التمييز، العداوة أو العنف، على أن يظهر الخطاب المُدان كراهيةً لمجموعة قومية أو عرقية أو دينية معيّنة؛ ويجب أن يتضمّن نيّة واضحة لتحريض الآخرين على التمييز أو العداوة أو ارتكاب العنف ضد المجموعة المعنية. كذلك يجب أن يُبرهن احتمال أن يرتكب الآخرون مثل هذا العنف أو أيّ أذى آخر، بالإضافة إلى بناء رابط واضح ومباشر بين الخطاب/التعبير وهذا العنف أو غيره من الأذى.
وعن إمكانية أن تتغيّر طبيعة الفعل؟
تُشير وهبي إلى أنّه عند إلغاء تجريم القدح والذم، تسقط الصفة الجرميّة الجزائيّة عن الفعل. ولذلك تبعات قانونية عدة، منها منع تحريك الدعوى من شخص غير المتضرّر كالنيابات العامة على خلفيّة التعبير عن الرأي. وبالتالي، تُمنع الأجهزة الأمنية من استدعاء الأشخاص والتحقيق معهم.
استدعاءات سابقة
شهد لبنان في الفترة الأخيرة حملة استدعاءات واسعة للصحافيين. ففي 30 آذار 2023، اعترض عنصران من جهاز أمن الدولة طريق الصحافي جان قصير، مؤسس موقع “ميغافون”، لإبلاغه بوجوب حضوره إلى مديرية التحقيق المركزي في المديرية العامة لأمن الدولة على خلفية منشور بعنوان “لبنان يحكمه فارون من العدالة”.
وفي 31 آذار 2023، استدعى مكتب مكافحة الجرائم المعلوماتية الصحافية لارا بيطار، رئيسة تحرير موقع “مصدر عام”، للتحقيق معها، بناء على شكوى من حزب “القوات اللبنانية” على خلفية تناولها قضية النفايات السامّة في مقال نُشر على الموقع قبل نحو ثمانية أشهر.
وفي 3 نيسان 2023، تمّ استدعاء قصير مرّة أخرى إلى المديرية العامة لأمن الدولة بناء على إشارة من القاضي عويدات. وفي ٤ نيسان، أعلنت منصة ميغافون أنها أُبلغت بوقف إجراءات التحقيق بحقها.
كذلك حكمت محكمة في تموز 2023 على الصحافية ديما صادق بالسجن لمدة عام وتغريمها 110 ملايين ليرة لبنانية (أي ما يعادل 1200 دولار أميركي بسعر السوق) بتهم إثارة النعرات الطائفية والقدح والذم بعد أن انتقدت أعضاء حزب سياسي على موقع “إكس” (تويتر سابقًا).
المصدر – النهار