باسكال وعصبة البربر
كتب الدكتور جورج شبلي:
لستُ، هنا، في موضع البكاء، فزمن البكّائين ولّى…
باسكال عاش بريئاً وقضى شهيداً، وهو ابن الحضارة والفرح، الخارج من رَحِم ثقافة الحياة المنفتحة على الرقيّ، المؤمن بسلطة الحرية، والمبتعِد في مدى الولاء للهوية والأرض.
باسكال النقيّ في انتمائه، فكراً وممارسة، ما أَشقاه، اليوم، بالإحباط الذي أفرزَه فِعل اغتياله، لأنّ قفزة التّنوير التي آمن بها حالةً تُحرِّر مفاهيم الوطنية من معوّقاتها، لم تستطع أن تحرّر، حتى الساعة، عصر الظّلمات في مجتمع ما قبل الدولة، عندَنا، حيث عاش.
باسكال ومَنْ قاوموا عُصبةَ البَربَر، وقضوا شهداء، هم حالٌ مُفرَدَةٌ لا يُعرَفُ لها شَبيه، ولمّا لا يُمكنُ إلّا الإقرارُ بأنّ نشأةَ لبنانَ قديمةٌ سَبَقَتْ شهداءَه، غيرَ أنّ وجودَه لم يُفَهرَسْ في كُتُبِ التَّراجِمِ إلّا معهم. فهم الذين ردّوا الإِثمَ الذي رُمِيَ به، وتمالَحوا مع أرضِهِ فاكتحَلَت بهم، وتحَوَّجَت من أنفاسِهم شعوراً بالعزّةِ، انتظرَته طويلاً، لتتحوَّلَ نُدوبُ دمعِها أَثلامَ عافية.
باسكال الملتزم بالثوابت الوطنية، والمتشبّث بالسيادة، وبالحرية تجسيداً لمبدأ الديمقراطية، واحترام كرامة الإنسان، لم يتنازل، يوماً، عن مُثُلِه، لِذا آزر مَنْ يدافعون عن ثوابته، ويسلكون مسلكه، ودعم اليدَ التي واجهت الطّغاة حامِلي مؤامرة تقويض الدولة، والنظام، والكيان، والهوية، بمشروع مشبوه قاتِل، وهؤلاء قتلوه…
لقد قتلوا باسكال، نعم، قتله أولئك المستهتِرون بالقِيَم، والعابثون بمصائر النّاس، قتلوه ليزهقوا مشروع الوطن الذي يحمله فيه. وكلّما تعرّفنا الى هذا المشروع، والى الذين يطرحونه، كلّما اقتربنا من تحديد هويّة القاتل، وبالتالي، لن يكون الإتهام، في هذا المجال، أبداً، وهميّاً.
أمام تهالُك مفهوم السلطة في لبنان، وأمام توزُّع الولاء ولاءات، ما أنذر بعودة البلاد الى زمن العبودية والتخلّف، كان باسكال، وهو المتماهي بالوطن، يناضل لكي تعود الدولة الى الدولة، ويُحَيَّد البلد لينأى عن النزاعات العبثية، ولا سيّما الإقليمية منها، لتجنيبه احتمالاتٍ سلبية تنجم عن صراعات مسلّحة، وعن حرب لا ينتج عنها إلّا دمار الحجر وخراب البشر. آمن باسكال بمشروع الدولة الذي يحصّن الوطن، ويجعله واحة سلام تسعى الى التقدّم، والإفادة من إيجابيّات الحضارة، والإنتقال بلبنان الى حال الإستقرار، والأمان، والعدل، ما يجعل المواطن يستردّ الثقة بوطنه مَجالاً أكيداً لتحقيق آماله، ولتأمين غدٍ أفضل لأبنائه.
لقد قتلوا باسكال ليستكملوا نَشلَ الوطن، وسَبْيَ الكيان، وفرضَ استعمار جديد بفرط من القوة والظّلم.
وبعد، لم يستشهد باسكال على يَدِ عساكر السّماء…