مئوية LAU تستحضر عصر الرحباني وفيروز
في برامج الجامعة اللبنانية الأميركية LAU وهي تحتفل بمئويتها هذا العام (1924-2014) أعدَّ مركز التراث اللبناني فيها مؤتمرًا من ست جلسات أكاديمية عالجت نتاج الأخوين رحباني وتأَلُّق فيروز فيه، من زوايا مختلفة نصوصًا وأَلحانًا وأَداءً فيروزيًّا مميَّزًا.
معوّض: قرن كامل في خدمة التعليم العالي والتراث
افتتح المؤتمر رئيس الجامعة الدكتور ميشال معوّض بكلمة جاء فيها: “تتوالى اللقاءاتُ والأَنشطةُ التي تُواكبُ مئويةَ الجامعة هذا العام احتفاءً بما قدَّمَت جامعتُنا طيلةَ قرنٍ كاملٍ من عمرِها في خدمة التربيةِ والتعليمِ العالي والتراثِ اللبناني. وها نحن اليوم في نشاطٍ آخَرَ خاصٍّ بالمئوية، تُكَرّس فيه جامعتنا بهاءَ الحضور الرحباني الفيروزي بقِسْمَيْه: المنبريِّ الأَكاديميِّ، والفنيِّ الغنائيِّ، كي تتكامَلَ الصورةُ بين الـمُداخلات المنبرية والأُغنيات على المسرح. ومركزُ التراث في الجامعة أَحسَنَ اختيارَ عنوان هذا المؤتمر، فسمَّاه “عصر الرحباني وفيروز”. وإِنه فعلًا هكذا عصرُنا الفنيُّ منذ ثلاثة أَرباع القرن حتى اليوم، وسوف يُقالُ بعد سنواتٍ طويلةٍ إِننا عشْنا في عصر الأَخوين رحباني وفيروز”.
وختم: “شُكرًا لمركزِ التراث على إِعدادِه هذا المؤتمرَ وتنظيمِه منبريًّا وعلى الأُمسيةِ الفيروزيةِ، حتى نجسِّدَ معًا كيف جامعتُنا، منذ قرنٍ كاملٍ، تعمَلُ لِمجدِ لبنان تربويًّا وتراثيًا وفنيًّا، وهو أساس في أَهداف جامعتنا أَن تكون في مجتمعنا واحةً للتلاقي والحوار”.
فيليب سالم: علاقة غيَّرت حياتي
الدكتور فيليب سالم أرسل من هيوستن كلمة مصوَّرة جاء فيها: “كانا أَخوَين كأَنْ لم يَكُنْ قبلَهُما أَخَوَانٌ مثلُهما. وكانا واحدًا في المحبةِ والأُخُوِّةِ والإِبداعَ. كُنّا نَتَغَدَّى كلَّ خَميسٍ لدى “مطعم فيصل” في رأْس بيروت. وفي الطريق إِلى المطعم كان عاصي يُمسك بيدي ويشدُّ عليها هامسًا في أُذُني: “هيدا منصور مهم. إِذا صارلي شي بدَّك تخلّي عينَك عليه”. كان منصور يَكْبَرُني سنًّا. ومع ذلك، بعدَ أَن غادرَنا عاصي، أَصبح لي منصور أَخي الأَصغر، كما كان لعاصي، وَصارت عيناي تُلاحِقانه ولو منه بعيد”.
وأضاف: “عاصي ومنصور حكايةُ عُمر غيَّرت حياتي. إنها حكايةُ حَضارة. وجاءت سيدةُ لبنانَ الأُولى فيروز فاكتملَ الثالوثُ اللبناني المقدّس. قد يَختلفُ اللبنانيون في أُمورٍ كثيرةٍ لكنّهم لا يختلفونَ في قدسيةِ هذا الثالوث الذي رَفعَ لبنانَ إِلى فَوق، وأَغنى حضارَته، وأَعطاهُ معنًى ناصعًا وهويةً جديدة”.
وختم: “عاصي ومنصور قِصّةٌ كبيرة. يَوْمَ زُرتُ منصور في المستشفى سأَلني: “أَتُرى سأَلتقي بعاصي؟ وهل سَيَعرفني وأَعرفُ”؟ كانا أَخَوينِ على الأَرض ويُصرَّانِ أَن يَبْقَيا أَخَوينِ في السماء. واليوم، ماتَ عاصي وماتَ منصور، لكنّهُما تَرَكا لنا وللبنانيينَ جميعًا وصيةً تَقول: “إِعبَدوا لبنانَ بَعْدَ الله”. بلى: يَجب أَنْ نَعْبدهُ كي نَستحقَّه ونُعيدَهُ إِلى الحياة”.
مرسيل خليفة: لولا صوت فيروز لكنتُ يتيم الأُم
كلمة الفنان مرسيل خليفة جاءت ناضحة بذكريات نوستاجية من صباه، وفيها: “عاصي ومنصور في أنطلياس حيثُ يقيمان، ثمّ في أقاصي الدنيا حيث تَشُدُّ رِحْلَها أعمالهما وتغترب، وَلَسْعَةُ الشِعر في شِعرهما لغةٌ تَعبقُ منها رائحةُ المدى وينتشر عرْفُها في البعيد: لا من قديمٍ معتَّق في جِرار الكلام هي، ولا من بقايا مُنمنمات الألحان. وهما فتحَا أبوابًا لا حُرّاسَ عليها، وأطلقا السحريّ في الموسيقى والشِعر شهدًا يتقطَّر. وَهَبَا إلى الـمُحال الوجودَ الممكنَ، وشكَّلا في لحظةٍ صمتَ ما قال العاشق لعشيقته حين شَعَّ الحنينُ إلى الوصال، وأطلقا في البياض موجَ الرحيلِ إلى البعيد على صَهوة الشهوات.”
وأضاف: “بعد سيّد درويش قلَبَ عاصي ومنصور معادلةَ الغناء العربيّ. معهما انتقل الغناء من التلحين إلى التأْليف الموسيقي، وأخذ النص الموسيقي يعيد كتابة النص الشعري ثانيةً، وفي الآن ذاته حيث يحرّر الأداء الصوتي فيعبِّر عن نفسه من الداخل. نجحا في استخراج موسيقى الشرق المخبوءَة، بإعادتها إلى الينابيع، إلى التراث البيزنطي والسرياني الكنسيّ، إلى التراتيل والمدائح والأَذان، إلى المقام والموشحات والقدود والأدوار والموّال، إلى التراث الشعبيّ أخذَا من مخزونه وأعادا كتابته بِلُغة موسيقية أوركسترالية أنيقة باذخة الجمال.
وختم: “شكرًا عاصي ومنصور وفيروز على هذا الفيض من جمال وإبداع قدمتموه زادًا لثقافتنا وذائقتنا… يا عاصي: غنيٌّ أنت، رغيفُكَ طيّب المذاق، وقوتٌ وفيرٌ لمن يمر بضعف في العزيمة. وأنت يا منصور: كلامكَ الكبير يجعلنا نخجل أَلَّا نحاول أَن نكون كبارًا. ويا فيروز: لولا صوتكِ، لكنتُ يتيم الأم! فَغَنِّي… غنّي كثيرًا، لأن البشاعة تملأ الوطن. وإنني أُقَبِلُ صوتكِ”.
محمود زيباوي: مطالعهما الأولى سنة 1948
الباحث محمود زيباوي عاد بالوثائق إلى بدايات عاصي ومنصور الرحباني في الإذاعة. ومما قال: “يصعب الجواب عن تاريخ بدْء الرحبانيين تقديم وصلتهما في الإذاعة، وذلك لغياب وثائق تعود إلى هذه الفترة. ويبقى خير مصدر لاستكشاف هذه الفترة جداول برامج الإذاعة المنشورة في المجلات، ومنها مجلة “الإذاعة” اللبنانية، وأقدم ما وصلَنا: إشارة في جدول برامج الإذاعة ليوم الجمعة 19 آذار 1984، وفيها “ثنائي رحباني ميقاتي” من الساعة 12:45 إلى الساعة 1:00. ونفهم من خلال هذه الإشارة أن الإذاعة خصصت ربع ساعة لفقرة موسيقية يؤديها عاصي الرحباني على الكمان مع بهيج ميقاتي على العود”.
وأضاف: “تسلّم فؤاد قاسم إدارة الإذاعة اللبنانية سنة 1948 فوظَّفَ عاصي في الإذاعة عازف كمان وملحّن أركان (الركن أربع أغنيات). دخل منصور الإذاعة بعد خمس سنوات، وورد خبر في مجلة “الصياد” (كانون الثاني 1953): ” ترك السيد منصور رحباني عمله في البوليس وانصرف الى مشاركة شقيقه عاصي في التأليف والتلحين”.
وختم زيباوي: ” في الإذاعة اللبنانية قدّم الأخوان رحباني أعمالهما الأولى بصوت شقيقتهما سلوى على الهواء مباشرةً، إنما لم يعتمدا هذه الطريقة كاملة في “محطة الشرق الأدنى”. فمن مراجعة جداول البرامج يظهر أن بعض الأغاني كان مسجلًا بدليل تكرار عدد من العناوين. ويمكن القول إن بعض تلك التسجيلات موجود في أرشيف “الشرق الأدنى” الذي انتقل إلى قبرص، ثم إلى لندن، وهو ضمن أرشيف الـ”بي بي سي”… وينتظر مَن يستكشفه ويُصنّفه”.
الأب بديع الحاج: فيروز معجزة الأداء
ركّز الأب بديع الحاج في مداخلته على تقنية أداء فيروز بصوتها المميز، ومما قال: “فيروز مطربة إذاعية من الدرجة الممتازة، عرفها الجمهور لأول مرّة من محطة الإذاعة اللبنانيّة التي تبنت صوتها وعهدت الى نخبة ممتازة من الملحنين بذلك الصوت الذهبي ليتعهدوه بالصقل والتربية، فتنقّلت فيروز في تَلْمَذتها الفنية على أيدي أساتذة مهرة، لم يكن استعدادها الفطري أقل حنكة منهم”.
وأضاف مستشهدًا بعبارة من الباحث جان ألكسان: “نهار 22 آب 1977 في حوار صحافي مع منصور الرحباني، سألتُه رأيًا علميًّا وصريحًا في فيروز وصوتها فقال: “فيروز إنسانة متفرّدة، صوتًا وتمثيلًا… صوتها من أوسع الأصوات النسائيّة من حيث الطبقات الصوتيّة، ويزداد حلاوة عامًا بعد آخر”.
وختم: “في لقاء آخر سئل منصور عن تأثير صوت فيروز على النتاج الرحباني فأجاب: “كل الأثر. ربينا نحنا وصوت فيروز، صرنا نكبر معه ويكبر معنا والموسيقى تكبر ونتطور مع بعضنا البعض، وصرنا نكتشف إمكانات قويّة لديها. بدأنا بالتلحين لهذه الإمكانات، ورحنا نطوّر الصوت حتّى ينطلق إلى آفاق أوسع، وفيروز تستجيب لذلك. وأتصوّر لو كنّا نتعامل مع مطربة غير فيروز لما استطعنا أن نلحّن ما قدّمناه. ففي أدائها ما يشبه التعجيز، ولا أحد يستطيع أن يؤدي ذلك إلا فيروز”.
فارس يواكيم: فضل مهرجانات بعلبك
الكاتب فارس يواكيم سرد في مداخلته أثر مهرجانات بعلبك في إطلاق الأعمال الرحبانية منذ منتصف الخمسينات. ومما جاء في كلمته: “بعدها، مع مطلع ستينات القرن العشرين، دخل الأخوان رحباني حقبة المسرح الغنائي مع الالتزام بالمثابرة على صعوبتها. وخاضا هذا اللون الإبداعي بعد عقد من بداية احترافهما التأليف الموسيقي. بدأت مسيرتهما الفنية عام 1948/1949، وكانت إطلالتهما الأولى في مهرجانات بعلبك سنة 1957 بمنوعات غنائية بعنوان “أيام الحصاد” وبعد سنتين بمنوعات أخرى بعنوان “المحاكمة”.
وأضاف: “كانت “موسم العز”، من بطولة صباح ووديع الصافي، أول مسرحية غنائية، بل هي النواة التي نضجت وأثمرت في المسرحيات الرحبانية التالية. قدّماها في مهرجانات بعلبك سنة 1960، في إطار “الليالي اللبنانية”، مع توصيات إدارة المهرجان بالاهتمام بالفولكلور اللبناني والقيم الاجتماعية اللبنانية. وقد لبّت المسرحية هذه الرغبات، فاشتملت على كوكتيل غني من المشاهد الغنائية التي استعرضت العديد من الملامح الفولكلورية”.
هالة نهرا: فيروز وزياد تيار رؤيوي
الباحثة هالة نهرا نقلت الحضور إلى مرحلة فيروز مع زياد الرحباني، ومما قالته: “يَفتِلُ زياد الرحباني بِمِغزَلِهِ الخاص خيوطَ كلماته في فَلَكِ اليوميّ والتلقائيّ المتداوَلِ، ويلوّنها ويرصُفُها على طريقته ليُعيدَ إنتاجَها ضمن رؤيةٍ فنيةٍ إبداعيةٍ شاملة تلتحفُ بالموسيقى وتخدم الأغنيةَ وحضورَ فيروز الغنائيّ”.
وأضافت: “هذه الجسارةُ قولاً وتنغيماً وهذا النبضُ الزِّياديُّ الفريد قَرَّبا فيروز إلى قلوب الشباب بل الأجيال المتعاقبة التي عشِقتْ تجربة زياد معها أو تعلّقتْ بها. لزياد أيضاً سطوتُه ومكانتُه في المشهد الفني اللبناني والعربي، وتجربتُه مع فيروز قد أغنتْهُ فنياً وأغنَتْ فيروز أيضاً في مرحلةٍ مختلفة عن مرحلةِ تعاونِها مع الأخوين رحباني عاصي ومنصور”.
وختمت: “مع زياد جمعت فيروز بين النخبويّ والشعبيّ، وأظهرتْ تجرِبَتُها قدرتَها على مواكبةِ لغة العصر ونيلِ إعجابِ واستظرافِ الجمهور في الكثيرِ من الأحيان. جعل زياد فيروز تنطق بمفرداتٍ وعبارات مثل “يخرب بيت عيونِك” (أغنية “عَ هدير البوسطة”)، و”مَلّا إنتَ” (أغنية “كيفَك إنتَ”). فكأنما تلك كانت انطلاقتها الجديدة إلى جمهور جديد”.
قراءات وأمسية
تخلل الندوات الثلاث حضورُ مدير “مركز التراث اللبناني” في الجامعة الشاعر هنري زغيب قارئًا بين مداخلة وأخرى بعض القصائد الرحبانية التي جعلت الحاضرين يدخلون إلى عالَم الأخوين رحباني الشعري، خاليًا من اللحن والصوت.
بعد الجلسات المنبرية انتقل الحضور إلى مسرح إروين في الجامعة حيث أحيت جوقة “عشتار” – “فيلوكاليًّا” أمسية غنائية رحبانية بقيادة الأخت مارانا سعد، لجمهور كثيف ضاقت به صالة المسرح.
وفي ختام الأمسية قدَّم رئيس الجامعة الدكتور ميشال معوّض شارة مئوية الجامعة إلى الأخت مارانا سعد التي تلقَّت أيضًا من الأستاذ سهيل مطر شعار “جائزة سعيد عقل” في عهدها الثالث.