الجيش اللبناني والبحث الدائم عن الدور… بين الإمكانات والإرادة الدولية
كان لافتا تأجيل الاجتماع الذي كان مقررا في 27 فبراير/شباط بدعوة من فرنسا لدعم الجيش اللبناني إلى أجل غير مسمى. التأجيل الذي أتى بطلب من الولايات المتحدة وعواصم أورويبة مرده استعجال فرنسي غير مبرر لبحث دعم الجيش في ضوء غموض يشهده الوضع الميداني في غزة، وصعوبة في التوصل إلى ترتيبات لوقف إطلاق النار، وارتباط ذلك باشتباكات متصاعدة بين “حزب الله” وإسرائيل في الجنوب اللبناني بما ينذر بتحولها إلى حرب مفتوحة.
كان من البديهي التراجع عن الدعوة، فباريس التي تلعب دورا عبر اللجنة الخماسية التي تضمها إلى جانب الولايات المتحدة ومصر وقطر والمملكة العربية السعودية لإنهاء الشغور الرئاسي في لبنان، والتي ينشط موفدوها في التحذير من توسع الاشتباكات في الجنوب اللبناني وفي محاولة إيجاد الصيغ الآيلة لوقف إطلاق النار، وضعت العربة أمام الحصان بتوجيه الدعوة إلى شركائها لدعم الجيش قبل أن تتبين ماهية الدور الذي سيقوم به هذا الجيش، والذي تتوقف عليه نوعية الدعم بعد تحديد العدد والتسليح اللازمين لأداء المهمة. وقد تكون الثغرة الكبرى في هذه الدعوة في توهم القدرة على التوصل إلى ترتيبات موثوقة في الجنوب تؤدي إلى وقف لإطلاق النار بمعزل عن تعقيدات المشهد الإقليمي والشروط الأميركية الملزمة لتحقيق أمن إسرائيل، والتي تعرفها باريس حق المعرفة.
لماذا وجهت باريس الدعوة؟
يلاقي الاستعجال الفرنسي الاقتراح المكتوب الذي سبق وسلمه وزير الخارجية الفرنسي ستيفان سيجورنيه للبنان وإسرائيل، والذي يهدف إلى إنهاء الأعمال القتالية والتوصل لتسوية بشأن الحدود المتنازع عليها وفق ثلاثة مراحل، بحيث تقضي المرحلة الأولى بوقف العمليات العسكرية بين الجانبين، وتقضي المرحلة الثانية بانسحاب مقاتلي “حزب الله” بمن فيهم “قوة الرضوان” إلى مسافة 10 كيلومترات شمالي الحدود، على أن يبدأ لبنان في غضون ثلاثة أيام بنشر 15 ألف جندي في المنطقة الحدودية مع توقف إسرائيل عن التحليق في الأجواء اللبنانية. أما في المرحلة الثالثة، والتي يجب أن تتم خلال عشرة أيام فيستأنف لبنان وإسرائيل فيها المفاوضات حول ترسيم الحدود البرية “بطريقة تدريجية” وبدعم من قوات الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان، كما سيخوضان مفاوضات حول خارطة طريق لضمان إنشاء منطقة خالية من أي جماعات مسلحة غير تابعة للدولة بين الحدود ونهر الليطاني، حيث ينص الاقتراح على هدم جميع المباني والمنشآت القريبة من الحدود بما يشير بشكل غير مباشر إلى إقامة منطقة عازلة. هذا ويدعو الاقتراح الفرنسي إلى بذل جهد دولي لدعم انتشار الجيش اللبناني “بالتمويل والعتاد والتدريب”.
لقد قوبل الاقتراح الفرنسي برفض “حزب الله” التفاوض قبل انتهاء الحرب في غزة، في الوقت الذي لم ترِد فيه أي ردود أميركية حوله، مما يعني أن ما حملته الورقة الفرنسية كان أقرب إلى الإرتجال- ربما بقصد المحافظة على زخم تريد فرنسا التفرد به- دون أن يرقى إلى مستوى تقديم إجابات جديرة بالنقاش للخروج من الأزمة.
ومن وجهة نظر واشنطن فإن إنسحاب “حزب الله” بما يشمل مقاتلي “قوة الرضوان”، وكذلك القدرات العسكرية ومنها الأنظمة المضادة للدبابات إلى مسافة 10 كيلومترات على الأقل شمالي الحدود يبقي مقاتلي “الحزب” على مسافة أقرب بكثير إلى الحدود مقارنة مع الانسحاب لمسافة 30 كيلومترا حتى مقطع نهر الليطاني وفق ما نص عليه قرار مجلس الأمن رقم 1701.
أما من وجهة نظر طهران فالاقتراح لا يلاقي طموحاتها السياسية، فهي تريد تشريع مكتسباتها في لبنان من خلال صفقة سياسية ترافق الاقتراح الميداني وهذا ما يتجاوز الصلاحيات المتاحة لباريس.
إن الفشل الذي لاقته الدعوة الفرنسية يكمن في عدم واقعية الدور الذي رامته فرنسا للجيش اللبناني من خلال اقتراحها، وهو إعادة استنساخ ما ساد منذ تطبيق القرار 1701 وحتى 8 أكتوبر/تشرين الأول المنصرم، وهذا ما لا يلاقي الطموحات الإسرائيلية والقواعد الأميركية المرتقبة للمشهد الإقليمي المنتظر. إن الفارق النوعي الذي حاول الاقتراح الفرنسي إدخاله هو في الاستجابة لطموحات باريس بعودة نفوذها إلى لبنان من بوابة الجنوب، وتحت عنوان دعم الجيش الذي لن يكون له أي دور حقيقي مع تحصين موقع “حزب الله” في الداخل اللبناني وترحيل الأزمة السياسية الداخلية المتعلقة بسلاحه إلى أجل غير مسمى.
اقتراح فرنسي يفتقر إلى شروط النجاح
هي ليست المرة الأولى التي يفشل فيها اقتراح تسليح الجيش في التوصل إلى خواتيمه النهائية. ففي الثامن من يناير 2013 أعلن وزير الدفاع الفرنسي جان إيف لودريان: “إقرار الهبة التي وعدت بها السعودية الجيش اللبناني خلال زيارة الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند للمملكة في 29 و30 من شهر ديسمبر/كانون الأول الذي سبق”. قرار الهبة السعودية بتسليح الجيش اللبناني جاء في حينه بناء على اقتراح قدمته فرنسا إلى السعودية في إطار اجتماع الدول المانحة للجيش اللبناني وقد وافقت القيادة السعودية فورا على الاقتراح وكانت قيمة الهبة (3 مليارات دولار) مفاجئة للسلطات الفرنسية.
فما هي المعطيات الجيوستراتيجية التي فرضت في حينه رفع قدرات الجيش اللبناني؟
لقد تزامنت الهبة السعودية في حينه مع الأولوية المطلقة التي أعلنتها المملكة للحرب على الإرهاب المتمثل في تنظيم “داعش”، و”جبهة النصرة” (القاعدة) وغيرهما من القوى الإسلامية الراديكالية التي تمددت في سوريا والعراق وكانت تتطلع إلى مزيد من التوسع في دول الجوار.
العامل المرجح للهبة السعودية كان نجاح الجيش اللبناني في مواجهة التنظيمات المتشددة على الحدود اللبنانية السورية خلال الأعوام التي تلت اندلاع الحرب في سوريا عام 2011، مما ساهم في تقديمه كفاعل أساسي في مواجهة ما يتعرض له الأمن الإقليمي ككل من تحديات جديدة.
هذا وقد تقاطع الجهد الميداني على الحدود مع توافق دولي (أميركي– أوروبي– روسي) على حماية لبنان عن طريق الاستجابة لحاجاته الأمنية وتعزيز طاقاته الدفاعية، بعد محاولات عديدة لـ”داعش” لاختراق الحدود اللبنانية ونقل الحرب في سوريا والعراق إلى الداخل اللبناني، وقد برزت بوادر هذا الانزلاق عبر عدد من الهجمات الإرهابية في الداخل اللبناني وصدامات دامية على الحدود الشرقية في جرود عرسال ورأس بعلبك.
الإجماع الإقليمي والدولي على عدم انزلاق الساحة اللبنانية إلى خضم الصراعات القائمة تجلى في اتخاذ القرار بتعزيز قدرات الجيش اللبناني الذي تم بتمويل سعودي وتسليح أوروبي أميركي.
لقد أدركت القوى الدولية في حينه أن حدود لبنان الشرقية أضحت صمام أمان للأمن الإقليمي، وأن النجاح في عدم تمدد الصراعات الإقليمية عبرها يشكل عاملا مساعدا للسيطرة عليها ويعزز فرص التسوية المحتملة، كما أن الإخفاق في ذلك واتساع مسرح العمليات ليشمل الساحة اللبنانية المثقلة بأكثر من مليون ونصف المليون لاجئ يرفع نسبة المخاطر ويفسح المجال لسيناريوهات مفتوحة على الاحتمالات كافة.
توقف الهبة السعودية
انطلقت مع الهبة السعودية سلسلة من اللقاءات بين الجيشين اللبناني والفرنسي لوضع مخطط التسليح قيد التنفيذ وجداول الاستلام وفقا لجاهزية التصنيع الحربي الفرنسي. وبالتزامن مع ذلك انطلقت نيران داخلية على الجيش من قبل “حزب الله”، سواء من قبيل التشكيك في دوره وأدائه وقدرته على حماية الحدود، أو على خلفية تعيينات عسكرية توظف لصالح خدمات سياسية.
إلى جانب ذلك انتقد “حزب الله” السلاح الأميركي المقدم للجيش على خلفية تزويد الولايات المتحدة فصائل المعارضة السورية المسلحة بالصواريخ نفسها. كان الهم الرئيس للحزب هو الحؤول دون وصول الجيش إلى الجهوزية الكاملة للدفاع عن الأراضي اللبنانية والسيطرة على الحدود مع سوريا، مما يسقط حجة الحزب في التمسك بسلاحه للدفاع عن لبنان، ويقيد الدور الإيراني الذي يستكمل هيمنته على سوريا، فاقتضت المصلحة الإيرانية إسقاط الهبة السعودية.
من هذا المنطلق، كان لا بد لطهران من زيادة الضغوط على المملكة واستثمار أذرعها لتعطيل الدور السعودي، وبالتالي أصبحت عملية الربط جائزة بين كل الأنشطة التي قادتها طهران في أكثر من دولة عربية وعلى أكثر من صعيد لإرباك المملكة. وتندرج في هذا الإطار العملية الانقلابية في اليمن عام 2014 على الرئيس آنذاك عبد ربه منصور هادي وبدء هجوم الحوثيين على المحافظات الجنوبية، ومحاولة الاستيلاء على مدينة عدن، التي انتقل إليها الرئيس هادي بعد الانقلاب، مما أدى إلى إطلاق عملية “عاصفة الحزم” من قبل التحالف العربي الذي قادته المملكة في 25 مارس/آذار 2015 لدعم الشرعية في اليمن وعملية إعادة الأمل في 21 أبريل/ نيسان بعد طلب المساعدة من قبل الرئيس اليمني.
وفي هذا الإطار أيضا يندرج إحراق السفارة السعودية في طهران وإنزال العلم السعودي يوم 2 يناير/كانون الثاني 2016 من قبل مجموعة من المتظاهرين الإيرانيين وقيام مجموعة أخرى بالهجوم على القنصلية السعودية في مشهد ونهب محتويات القنصلية، ما أدى إلى قطع العلاقات بين المملكة وإيران وتبعتها البحرين والسودان وجيبوتي والصومال.
وفي مقابل كل ذلك، أعلنت السعودية يوم 19 فبراير/شباط 2016 في بيان رسمي “إيقاف أكبر دعم في تاريخ لبنان من المساعدات العسكرية لتسليح الجيش اللبناني، وقدره 3 مليارات دولار، وإيقاف ما تبقى من المساعدة المقررة بمليار دولار التي خصصت لقوى الأمن اللبناني، نظرا لمواقف لبنان المناهضة للمملكة في المحافل العربية والدولية في ظل مصادرة حزب الله إرادة الدولة. وكان لبنان قد امتنع في اجتماع مجلس الجامعة العربية عن دعم السعودية وإدانة الاعتداءات التي تعرضت لها البعثات الدبلوماسية في إيران، إضافة إلى عدم تأييده التحالف العربي الذي تقوده السعودية الذي نفذ عملية “عاصفة الحزم” في اليمن، وكذلك عدم تأييده التحالف الإسلامي المكافح للإرهاب الذي أعلنته المملكة في ديسمبر 2014، فضلا عن المواقف السياسية والإعلامية التي يقودها حزب الله في لبنان ضد السعودية، وما يمارسه من إرهاب بحق الأمتين العربية والإسلامية”.
الدور المرتقب وفرص النجاح
رغم الاختلاف في تجربتي تسليح الجيش اللتين لم تبلغا الهدف منهما، فإن السعودية اتسمت بالفورية والجدية في اتخاذ القرار وسددت من هبتها مبلغ 500 مليون دولار وتكدس القسم الأول من الأسلحة بعد تصنيعها في المرافئ الفرنسية، أما الاقتراح الفرنسي فاتسم بالارتجال وافتقر للواقعية في مقاربة الظروف الدولية والإقليمية، كما أن باريس لم تراع المصلحة الوطنية التي يتطلع إليها اللبنانيون التواقون إلى دولة الدستور والقانون والمؤسسات الشرعية. إلا أنه يمكن قراءة جملة من مسببات الفشل المشتركة وإن يكن من زوايا مختلفة.
في المقام الأول لا بد من الإشارة إلى الدور المركزي لطهران في تعطيل الهبة السعودية عبر إشعال الساحات في اليمن وتهديد الشرعية، وبعدها تهديد المنشآت الحيوية في المملكة، وإشعال الساحات في سوريا والسيطرة على الحدود مع لبنان، كما في إظهار قدرتها على فرض شروطها على الحكومة اللبنانية ومصادرة قرارها ومنعها من القيام بأبسط واجباتها في إدانة الاعتداءات على البعثات الدبلوماسية السعودية.
وفي المقابل يعاني الاقتراح الفرنسي من نقاط ضعف عديدة تسببت في إسقاطه، رغم المأزق الذي تعيشه طهران ورغم الضربات التي تتلقاها الفصائل التابعة لها في سوريا واليمن ورغم صعوبة الموقف الميداني الذي يعانيه “حزب الله”.
أولى نقاط الضعف تكمن في المحاولة الفرنسية الدائمة لفرض التعايش مع النفوذ الإيراني على اللبنانيين لتحقيق مصالح فرنسية أضحت معروفة وتترجم بتقديم تنازلات دائمة.
وثانيها استشعار طهران بأنها تمتلك الكثير من الأوراق التي تخولها التفاوض حول لبنان والمنطقة مع الولايات المتحدة مباشرة وليس عبر الوسطاء الفرنسيين. وقد يكون في عدم وضوح الرؤيا الأميركية حيال المنطقة لا سيما في ما يتعلق بأمن إسرائيل الذي تحول هاجسا أميركيا أو في ضبط التحالفات مع القوى الصاعدة في المنطقة لا سيما المملكة العربية السعودية ما يترك متسعا من المجال لطهران للرهان على المتغيرات وعلى أدوار مستقبلية.
ولا مفر من القول ان اللبنانيين يصبون إلى تحقيق الاستقرار على حدودهم الجنوبية تحت مظلة الشرعية الدولية وبموجب قرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة. لكن تحقيق الأمن والاستقرار يفترض وجود سلطة مركزية تعمل في ظل شرعية دولية قادرة على مواجهة التحديات والمخاطر الإقليمية. وبهذا المعنى يصبح من المتعذر الفصل بين الاستقرار في الجنوب والاستقرار على الحدود الشرقية. اللبنانيون مؤمنون طبعا بالاختلاف بين مخاطر إسرائيل في الجنوب واعتداءاتها المزمنة على لبنان والمنطقة العربية، ومخاطر الحدود الشرقية لجهة استخدامها في تهريب الأسلحة والمسلحين والمخدرات وتسلل الإرهابيين ولكن التهديد الأكبر يبقى في استخدامها أيضا في نقل الأسلحة بطريقة منتظمة إلى الجنوب والعمق اللبناني، وبالتالي فإن الإجابة على هذين النوعين من المخاطر غير ممكن في ظل حلول مجتزأة لا تأخذ بعين الاعتبار المشهد اللبناني برمته.
إن مسألة قيام الجيش بدوره في الجنوب اللبناني بعد توقف المعارك الدائرة عبر الدبلوماسية أو عبر الميدان ليست مسألة قدرات وتجهيزات، بل هي مسألة إرادة دولية واضحة وجازمة نحو استعادة الدول لأدوارها الحقيقية في حماية أمنها الوطني تحت مظلة الشرعية الدولية.
في المسألة التقنية يمكن الرهان على قدرات الجيش والشرعية الوطنية التي يتمتع بها بالاضافة إلى تجارب عديدة من النجاحات التي لا تتوفر ربما في أكثر الجيوش تطورا، وفي هذا الإطار يبقى الرهان على تزويد الجيش بالأسلحة والتجهيزات اللازمة. أما في مسألة الإرادة الدولية فالرهان على النجاح يكمن في جدية القوى الدولية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الاميركية في الانتقال من نظرية الحروب بالوكالة ودعم الفاعلين غير الحكوميين التي أدت إلى تفويض دول إقليمية وفي مقدمتها إيران استخدام الميليشيات تحت عناوين مذهبية أو أيديولوجية لتدمير استقرار الدول في المنطقة. وفي هذا المجال فإن لبنان ليس سوى نموذج في الإقليم لصراعات مزمنة في ليبيا والعراق والسودان واليمن وسوريا وسواها.
العميد الركن خالد حماده – المجلة