فصل أميركي جديد.. في “كتاب” رفح!

| جورج علم |

طاف الحوار على مؤتمرات ثلاثة: المنتدى الإقتصادي العالمي ـ دافوس. وميونخ للأمن. ومجموعة العشرين في ريو دي جانيرو. وطافت تحديات ثلاثة تحاكي الأمن الإنساني، والأمن الاقتصادي، والأمن البيئي.

كان لقطاع غزّة مكان في الكواليس، وحول طاولات الحوار، وللدولة الفلسطينيّة أيضاً، وعلق مربّع رفح ما بين الاستباحة، والاستجابة لما تبقّى من ضوابط قانونيّة، وإنسانيّة، وأخلاقيّة. وأوحى الحوار، وفق خلاصاته، إلى وقف الانزلاق، حقناً للدماء، وحتى لا ينفجر الشرق الأوسط، ولا يعود الروسي من الباب الواسع، وقد بدأ يمسك بالحوار الفلسطيني، ولا تعود موجات التطرّف لتغرق دول الإعتدال.

وطافت الولايات المتحدة بـ”مزاجها” على المؤتمرات الثلاثة. خلت القاعات من التصفيق، وتصاعدت الهمهمات، كونها الشريك المشارك في المذبحة، والجلاّد المشرف على المهلكة في غزّة، والقاضي المنحاز في مجلس الأمن، المعطّل لقرارات وقف إطلاق النار. ووفقاً للخلاصات الدبلوماسيّة، تمكّنت من أن تترك انطباعاً واعداً حول الدولة الفلسطينية، ومنع تهجير رفح.

هناك خلفيات تستند إليها. لقد حمل وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن في جعبته الكثير من الوعود إلى دول المنطقة، خلال زياراته الخمس التي تلت “طوفان الأقصى”. لم يعد لديه الكثير. كان يهوديّاً في كيان الاحتلال الإسرائيلي، وفق بطاقة التعريف التي قدمها خلال زيارته “التعاطفيّة” الأولى. وكان براغماتيأ في ما بعد “لا يمكن للغطرسة أن تستحم يومياً بدماء الأطفال الأبرياء”.

واستدراكاً، يتم التداول في كولسات دبلوماسيّة محليّة بسرديات.
أولاً ـ إتخذ مجلس الوزراء “الإسرائيلي” قراراً بإجماع أعضائه، يرفض “الاعتراف الآحادي بالدولة الفلسطينيّة”. رفع هذا القرار من منسوب التباين مع إدارة بايدن، وتعاطت معه على أنه ردّ فجّ على الوزير بلينكن الذي سبق وأعلن في المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس عن “ضرورة قيام دولة فلسطينيّة حقيقيّة، تديرها سلطة موحّدة”.

على الأثر، تحرّكت خطوط “الأجهزة” بين تل أبيب وواشنطن لإحتواء الموقف، وتم التوافق على استخدام حق النقض (الفيتو) لإسقاط مشروع القرار الجزائري الداعي إلى وقف فوري لإطلاق النار في غزّة، مقابل المزيد من الفرص الدبلوماسيّة للوصول إلى هدنة تمنع نتنياهو من اجتياح رفح.

ثانياً ـ خشية الولايات المتحدة من أن تجتاح “تسونامي” التطرّف أنظمة الاعتدال في العالم العربي، في حال أقدمت “إسرائيل” على تهجير مَنْ في رفح إلى سيناء. مصر قد تصبح مرغمة على مراجعة حساباتها. واحتمالات توحيد الموقف ما بين غالبية الدول العربيّة والإسلاميّة، تصبح ممكنة لمواجهة الغلو الأميركي ـ الإسرائيلي.

إن “التلاقي بين الهلالين” لا تريده واشنطن، وتحسب له ألف حساب لحماية مصالحها المنتشرة انطلاقاً من سوريا، مروراً بالعراق والخليج، وصولاً إلى البحر الأحمر.

ثالثاً ـ إن الإدارة الأميركيّة حريصة على استكمال حلقات “التطبيع”. كان الرئيس جو بايدن يراهن على انضمام المملكة العربيّة السعوديّة إلى “اتفاقيات الصندوق الإبراهيمي” قبل حماوة المعركة الانتخابيّة في الولايات الأميركيّة، إلاّ أن “طوفان الأقصى”، وما تلاه، قد فرمل الإندفاعة. الآن، يتهيأ لطرح معادلة “دولة للفلسطينييّن، مقابل دمج إسرائيل في العالم العربي”. ويرى فريق عمله أن نجاح هذه المعادلة يتوقف على مدى نجاح المساعي لمنع اجتياح رفح.

رابعاً ـ ترى واشنطن أن “ازدواجية” بنيامين نتنياهو لا يجب أن تكون القاعدة التي يفترض احترامها. يعرف “حماس” حسباً ونسباً، وأتاح لها الكثير من الفرص لمواجهة السلطة الفلسطينيّة. الآن يصرّ على “تصفيتها”، ومنع مشاركتها في مستقبل اليوم التالي في غزّة.
وتجاري واشنطن نتنياهو في توصيفه “لحماس”، لكن لا تجاريه في شروطه لسببين:

الأول، أن القضاء على “حماس” هو من سابع المستحيلات. إنها جزء من “منظومة” تضم عشرات الفصائل التي تحمل عشرات الأسماء، وإذا “غاب سيّد، قام سيّد” في خضمّ مناخ جماهيري منفعل يسود العالمين العربي والإسلامي على خلفية ما يجري في غزّة، والضفة، من حروب إبادة. ما تتخوف منه واشنطن هو قيام “تسونامي تطرّف”، خصوصاً إذا ما هُجّرت رفح، وتأخر التوافق على قيام دولة فلسطينيّة.

الثاني، أن بلينكن أبلغ الرئيس محمود عبّاس عندما زاره مؤخراً في رام الله “دعم واشنطن لإصلاح السلطة الفلسطينيّة”، وتترك “للفلسطينييّن حريّة اختيار قياداتهم”.

خامساً ـ إن إجتياح رفح ـ في حال حصوله ـ سيفتح ما تبقى من أبواب مقفلة بوجه التمدد الروسي من جهة، والصيني من جهة أخرى، في شعاب المنطقة.

تعتبر الإدارة الأميركيّة أن البوارج وحاملات الطائرات عندما مخرت عباب المتوسط، وبحر العرب، والبحر الأحمر، لم تأتِ لدعم “إسرائيل” فقط، بل لمنع قيام حرب شاملة تستغلها موسكو وبكين للدخول معاً من مسارب مختلفة، وتفرضان أمراً واقعاً من الشراكة عندما يحين أوان ترسيم حدود المصالح.

لقد أعلن الرئيس فلاديمير بوتين عن إستضافة موسكو حوار فلسطيني ـ فلسطيني بين “حماس” و”السلطة” في 29 الجاري. لقد أمسك بالملف، أو يحاول، وهذا تطور كبير يقلق الولايات المتحدة، ويثير الكثير من علامات الإستفهام في فضاء الإتحاد الأوروبي، والخليج، وصولاً إلى البحر الأحمر. هناك نغم روسي على إيقاع “تلازم الأزمتين.. وتلازم الحلّين”، وأن “الوصول إلى تفاهم حول اليوم التالي في غزّة، يقضي الوصول إلى تفاهم حول اليوم التالي في أوكرانيا”… وأن “خط أنابيب الغاز الروسي “نورد ستريم” لا يمر بالبحر الأحمر.. ولكن ربما لا غاز يمرّ أيضاً عبره، إن لم يتحرّر الغاز الروسي من العقوبات الأميركيّة ـ الأوروبيّة!.. وللحديث تتمة…

Share.

Comments are closed.

Exit mobile version