غزة- سيناء: دولة السيادة المنقوصة

لوّحت القاهرة، في خطوة غير معتادة، بتجميد معاهدة كامب ديفيد، في حال مضت إسرائيل قدماً في خطتها لاقتحام رفح برّياً. وهذا ليس التهديد الأول من نوعه منذ بداية الحرب على غزة، فمرة بعد أخرى حذرت الجهات المصرية من أن أي تهجير قسري للفلسطينيين بدفعهم للفرار عبر الحدود المصرية، سيكون مقدمة لعواقب وخيمة في العلاقات مع تل أبيب.

من الذاكرة الرسمية المصرية، تطل أحداث يناير 2008، مثل كابوس مؤرق، حين اقتحم الآلاف من سكان غزة، الحدود المصرية نحو سيناء، في محاولة لكسر الحصار المفروض على القطاع. كان من الواضح أن حركة حماس وقفت وراء تفجير جزء من الحاجز الحدودي بالقرب من معبر رفح، وهي التي حضت الأهالي على عبوره، بغية الضغط على نظام حسن مبارك آنذاك، من أجل تخفيف شروط الحصار. وبعد وعود مصرية بمراجعة الترتيبات الحدودية على المعبر، عملت حماس سريعاً على تدارك الموقف، بالعودة إلى ضبط الحدود.

في الماضي، صدر التهديد باقتحام الحدود بفيض بشري من ناحية حماس، ويأتي اليوم من الجانب الإسرائيلي الذي لا يخفي مخططاته العلنية لإخلاء غزة من سكانها. واحد من العوامل المستجدة في ذلك التهديد المزدوج، على خلفية الحرب الدائرة، هو انهيار الإدارة المدنية في معظم مناطق القطاع، وبالأخص على الحدود، ما يجعل هذا التهديد أكثر جدية.

تتوالى الأخبار عن تعزيزات عسكرية مصرية في سيناء، وتزويد القوات بتجهيزات رؤية ليلية. وأي قراءة لتلك التحركات يجب أن تنطلق من حقيقة أن شبه جزيرة سيناء، أو على الأقل أجزاء واسعة منها، تظل منزوعة السلاح بفعل اتفاقية كامب ديفيد. والحال أن وضعية السيادة غير الكاملة تلك، هي أحد دوافع عصبية القاهرة وهي تراقب ما يحدث في غزة.

بشكل أو بآخر، تُعدّ غزة امتداداً لمعضلة سيناء، وتعد سيناء امتداداً لمعضلة غزة. بالكاد خرجت شبه جزيرة سيناء من عشرية دموية عنيفة، ولن يكون من باب المبالغة وصفها بالحرب الأهلية الصغيرة. وفي ذلك الاقتتال الطويل والمتقطع، ظهر عنف الدولة المفرط بقدر انكشاف نقصان سيادتها.

فمن جهة، كان على القاهرة خارجياً، طلب موافقة إسرائيل على الدفع بمزيد من القوات العسكرية على أراضيها. ومن ناحية أخرى، لجأت الأجهزة الأمنية داخلياً إلى “أهلنة” الحرب على الإرهاب، حين بدأت في تشكيل مليشيات من قبائل سيناء المحلية، بهدف تجنيدها لضبط الأمن في شبه الجزيرة وقتال أعضاء “الدولة الإسلامية” والتنظيمات الجهادية الأخرى. في الناحية الأخرى من الحدود، كانت حماس شريكاً في الحرب المصرية على “الدولة الإسلامية”، وفي المقابل أغمضت القاهرة عينيها عن بيزنس التهريب إلى القطاع ومنه، لأسباب ودوافع تراوحت بين الفساد المستشري في الأجهزة الأمنية المصرية، وبين مواءمات سعت لموازنة التزامات القاهرة العلنية نحو إسرائيل ودعمها الشحيح والمستتر لفلسطينيي القطاع.

مع تراجع وتيرة العنف في سيناء، سرعان ما تحولت عملية “أهلنة” الحرب على الإرهاب هناك إلى “خصخصة” للإدارة الأمنية اليومية لشبه الجزيرة المضطربة. في ذلك السياق، شكل قادة المليشيات المحلية، شركات خاصة، وتولى بعضهم مناصب إدارية شبه رسمية، وظهرت صورهم وأسماؤهم في وسائل الإعلام إلى جانب قيادات الدولة. من بين وظائف أخرى، تولت تلك الكيانات الخاصة المستحدثة، تنظيم النفاذ عبر الحدود مع غزة، لا سيما حركة نقل البضائع والمسافرين بين الجانبين، وبتنسيق أمني بين الجهتين. وعبر خصخصة أعمال السيادة بتلك الطريقة، تخففت الإدارة المصرية من عبء الضبط الأمني، وتركت مهام تسييرها اليومي في أيدي مراكز القوة المحلية وشبكات ضمان الولاء مقابل توزيع المنافع. وفي الوقت ذاته، سمح الوضع الرمادي لتلك الأعمال، ووقوعه بين تقاطعات السيادي والخاص، بتربّح القيادات الأمنية والسياسية من وراء ستار تلك الشركات الخاصة.

منذ اندلاع الحرب في غزة، تشير التقارير المتتالية إلى أن المنظومة الأمنية المخصخصة في سيناء، تتوسع لتشمل اقتصاد حرب، حيث تشرف الشركات الخاصة نفسها على تعرفة “التنسيق الأمني” لخروج المصريين والفلسطينيين من القطاع، بتسعيرة تتجاوز عشرة آلاف دولار للمسافر الواحد، بالإضافة إلى احتكار عمليات نقل المعونات والشاحنات التجارية إلى القطاع.

تكشف غزة وحربها، بشكل أوضح، السيادة المنقوصة للدولة المصرية على سيناء وعلى حدودها الشرقية، في جانب بفعل اتفاقية السلام وقيودها، وفي جانب آخر بسبب ترتيبات أمنية-أهلية لها تاريخ طويل، تسمح اليوم لشبكات الولاء المحلية ومعها القيادات الأمنية بالتربّح من المجزرة الدائرة في الجوار.

Share.

Comments are closed.

Exit mobile version