الراب في لبنان…موسيقى جريئة قيد التوسّع
تتبدّل الأذواق الموسيقيّة على مرّ السنوات، ليطغى على كلّ حقبة نوع معيّن. فبين الكلاسيكي والبوب والكونتري والجاز والروك واللاتن والتكنو، برز الراب أو ما يعرف أيضاً بثقافة الهيب هوب، في لبنان بشكل أساسي في بداية الألفيّة الراهنة، جاذباً جمهوراً شبابيّاً واسعاً إليه. ومنذ صدور أول أغنية راب محلية، إنقسم المستمعون بين معجبين ومنتقدين شرسين، فأين هو اليوم من الساحة الفنية؟
تستخدم مصطلحات «الراب» و»الهيب هوب» بشكل متبادل، من دون التفريق بينهما غالباً، إلّا أنّها تشير إلى عناصر مختلفة ضمن حركة ثقافية واسعة. فالراب هو عنصر من عناصر ثقافة الهيب هوب، ويشكّل فيها الجانب الصوتي واللفظي فقط. ومنذ بداياتها المتواضعة في نيويورك، انتقلت موسيقى الهيب هوب التي تعتبر منصة للأصوات المهمّشة إلى الجمهور العالمي الواسع.
أمّا الراب، فيحتلّ منطقة رمادية تجمع ما بين الكلام والنثر والشعر والغناء. هو نمط من الموسيقى الشعبية، تمّ تطويره بواسطة الـdisc jockeys، خصوصاً الأميركيين منهم، حيث يوفر إيقاعاً يتكرّر على مدى المعزوفة، ويسمح للمغنّي أن ينظم عليه كلاماً مع أو من دون قافية في بعض الحالات، لسرد قصّة ما أو إيصال رسالة أو طرح إشكاليّة فرديّة أو جماعيّة. أمّا تحديد أهمّ الرابرز في التاريخ فهو أمر نسبيّ، يعتمد على الأذواق الشخصية والتأثيرات الثقافية. مع ذلك، ترك البعض بصمة فريدة في مجال الهيب هوب وحقّقوا أرقاماً بارزة، منهم الأميركي Eminem ومارشال بروس ماثرز، الذي ألهم الكثير من الشبان والشابات في العالم لتبنّي هذه الموسيقى وصناعتها، أو حتّى مجرّد الاستماع إليها.
الثقافة أساس
لطالما اعتُبر هذا النوع من الفنّ وسيلة للناس عموماً وللشباب خصوصاً للتعبير عن همومهم بموسيقى جريئة. ويشير أحد أبرز الرابرز في لبنان نزار زغيب الذي يغني هذه الساحة الفنية منذ 2010 وأسّس استوديو خاصّاً به (Garage Studios)، في حديثه لـ»نداء الوطن» إلى أنّ فنّ كلّ مجتمع يكون انعكاساً لحالته النفسيّة. ويضيف: «لا أنسى ما تعلّمته في السنة الأولى في الجامعة، حين كنّا نشاهد أفلاماً ألمانيّة صُنعت بعد الحرب العالميّة الثانية لُقّبت بموجة الـGerman expressionism، والتي تميّزت بالمواضيع الغامضة والقاسية انعكاساً لشعور الفنّانين والمواطنين بعد الحروب المدمّرة. كذلك، الراب اللبناني يعبّر عن اللبنانيّين الثائرين والمناضلين والمقاومين للأزمات».
الثقافة، هي الأساس في كتابة الأغاني، يقول زغيب الحائز شهادتي ماجستير، والذي عُرف بتنوّع الأعمال التي يقدّمها من لغة الشارع إلى الفلسفة، ويضيف: «ابتكار قوافٍ مميّزة وجديدة يتطلّب معلومات وثقافة عامّة واسعة، ومعرفة عميقة للغة حتّى يتمكّن الفنّان من الاستفادة من معجمها الواسع بطريقة سليمة».
يتمّ وصف الراب أحياناً بأنه فنّ هابط نظراً للغته التي يعتبرها البعض سوقيّة ومبتذلة، وبحسب زغيب «هذا الاتهام تافه»، معطياً شعراء عرباً كالمتنبي وأبي نواس مثالاً، إذ انتُقدوا لكلامهم الجريء قبل أن يصبحوا جزءاً لا يتجزّأ من الثقافة العربيّة. حتّى أنّ المدح والهجاء اللذين اشتهر بهما الشعر العربي في فترة معيّنة، هما من خصائص الراب ويعرفان بالـdiss (اختصار لكلمة disrespect).
ويتابع حديثه قائلاً: «يمكن للراب أن يكون لأرقى الناس. لنقارنه مع الفنون القتالية التي يبلغ مردودها ملايين الدولارات في العالم. فمع أنّ هذه الفنون ترتكز على الضرب والعنف، لكن يُرحّب بها في إطار الحلبة والملاعب الرياضيّة. والراب كذلك، فكما أنّ الاقتتال مع الناس على الطريق غير طبيعي، كذلك كلمات الراب خُلقت لإطار ومجال معيّنين».
وعن وضع الراب في لبنان، يؤكد أنّ «مشكلته تكمن في أنه غير ثابت، وهو رهينة الفنّانين الذين يخلقونه أو يقتلونه، ربّما بسبب نقص المردود المعنويّ والماديّ».
مشاركة نسائية خجولة
لم ينشأ هذا النوع من الموسيقى في العالم العربي، إلا أن مشهد الراب والهيب هوب نما في منطقتي الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وطوّر فيهما نكهته الخاصة واندمج مع الأصوات والأساليب الإقليمية، ليصبح نوعاً فرعياً خاصاً. وغالباً ما استخدم الرابرز العرب هذا الفنّ لتوصيل صوتهم الذي لا يشبه أي صوت آخر.
«علّي الصوت» هو شعار الرابر سابين سلامة، وهو مقطع من أغنيتها «علبة بقلب علبة» التي تقول في نهايتها: «رجاع عالعلبة سكّر فوق عتّم جوّا وعلّي الصوت». وهذا الصوت، هو صوت الموسيقى التي تعبّر عن الهموم والأحلام. وفيما هناك مدارس وأسماء معروفة أكثر من سواها كأنطوني السمراني ونزار زغيب ومازن ابن طرابلس المعروف بـ»الراس»، فثمّة مواهب ناشئة في المشهد اللبناني ما زالت تشقّ طريقها بعضها نسائي؛ مثل سابين التي لم تخطط لأن تكون جزءاً من ثقافة الهيب هوب، لكنّها أعجبت بهذا النوع من الموسيقى منذ صغرها، خصوصاً الراب العربي… وتؤكّد، على عكس ما يعتقد البعض، أنّ الرابرز الزملاء شجّعوها ودعموا خطواتها حتّى وصلت لما هي عليه. وفيما لا تزال مشاركة النساء خجولة في هذا المجال، تقول: «ليس هناك رابرز نساء، ليس بسبب الشباب الذي يصرّ البعض على تصويرهم بأنّهم مسيطرون، بل لأنّ النساء في مجتمعنا مكبّلات بتوقّعات وأحكام»، موضحةً أنّ الأبواب كانت ولا تزال مفتوحة أمامها، فهي من الذين استفادوا من منح «الصندوق العربي للثقافة والفنون» (آفاق)، وشكّل ذلك البداية الفعليّة لمسيرتها.
وعن المساحات المخصّصة للراب، تردف: «كنت أذهب للاستمتاع بالراب في المساحات المخصّصة له في بيروت كـ»راديو بيروت» و»مترو المدينة» حيث كانت المجموعات المعجبة بهذه الموسيقى تلتقي. أمّا اليوم، فربّما لم تعد المساحات التي تشجّع الراب كثيرة، إذ تتركّز الصناعة على مواقع التواصل الاجتماعي والمنصّات التي توفّر محتوى سمعيّاً».
فضاءات قليلة
Underground مثلاً، هو مساحة من تلك التي ما زالت تعطي أهمّيّة لهذا النوع من الموسيقى. وتؤكّد الإدارة أنّ سهرات الراب ما زالت تجمع أشخاصاً من فئات عمريّة مختلفة ومن مناطق لبنانيّة بعيدة عن بيروت. والرابرز الذين تتراوح أعمارهم إجمالاً بين الـ21 والـ30 عاماً، يقدّمون محتوى يلاقي رواجاً، ما يجعل الإدارة تنظّم دوريّاً نشاطات مكرّسة للراب ضمن عروض لعدد من الفنّانين.
دعم محدود
«الصندوق العربي للثقافة والفنون» (آفاق) الذي دعم مشاريع كانت باكورة أعمال أصحابها، يساند الفنّانين العرب المقيمين في بلادهم أو المغتربين عنها منذ عام 2007. ويتمّ تقديم المنح ضمن عشر فئات مختلفة، من بينها فئة الموسيقى التي يتقدّم للاستفادة منها أكثر من 250 طلباً من أنماط موسيقيّة مختلفة، يختار منها الصندوق 25 مشروعاً لدعمه سنويّاً. وتفيد مديرة برامج الأفلام والموسيقى فيه سولاي غربيه بأنّ «الراب وموسيقى الهيب هوب يشكّلان 15 إلى 20 في المئة من المشاريع المقدّمة، فيما يتمّ اختيار مشروع أو اثنين فقط لدعمهما، أي ما يقارب 10 في المئة من المشاريع التي تحظى بتمويل سنويّاً». وشدّدت غربيه على أنّ «آفاق» الذي يسعى إلى تشجيع أنماط مختلفة من الموسيقى حتّى تكون موجودة على الساحة الفنّيّة العربيّة، لاحظ ارتفاعاً في عدد مشاريع الراب المقدّمة عبر السنين، إذ لم يتقدّم أيّ طلب في هذا الصدد في السنوات الأولى التي تلت إنشاء الصندوق. وتشير إلى أنّ «هذا النوع من الموسيقى ينمو في المنطقة العربيّة إجمالاً، بشكل أساسي لأنّه وسيلة تعبّر بقوّة الكلمات، كما أنّ كلفة إنتاجه منخفضة جدّاً نسبة لأنواع موسيقيّة أخرى، ويُطلق عليه حتّى تسمية Bedroom Project». يُذكر أنّ «آفاق» ليس إلّا واحداً من صندوقين يدعمان هذا النوع من الموسيقى، وفي الحالتين تضمّ المنافسة كلّ العالم العربيّ.
الموسيقى، كلّ الموسيقى… فنّ. وفيما يستهزئ البعض في لبنان بالراب، إلّا أنّه كسواه من الأنواع الموسيقيّة والفنون، يتطلّب مهارات محدّدة ويتأثّر بالأزمات المتتالية التي تنهك الفنّ وأهله في البلد. فلا الراب اختفى وأصبح «موضة قديمة»، ولا هو «دون المستوى»، بل يحتاج فقط إلى أن يستعيد قواه حتّى يعود الصدى لكلماته.