الصّورةُ القاتمة

إنّ مشروعَ الوطنِ الذي يتجاوزُ صِراعَ المتهالكينَ على السّلطة، والمُتساجِلينَ حولَ تحديدِ مفهومِ الإنتماءِ، باتَ تحتَ المقصلة، وتمَّ اغتيالُهُ بمصادرةِ قرارِهِ والتي تُمليها فوّهةُ الإستقواء. وإذا عدنا الى القاموسِ السياسيّ الدوليّ، نجدُ أنّ هذا المشروعَ لا يخضعُ للنسبيّةِ، أو لتصنيعِ إيديولوجيّةٍ تمسخُهُ، ذلك لأنه فلسفةُ وجودٍ وبقاء. أمّا الصورةُ القاتمةُ في مقاربةِ هذا المشروع، فتبدو في التّناقضِ بينَ مَنْ يَسكنُ الوطنُ في وجدانِهم، وبينَ مَنْ نفضوا أيديَهم منه، وانقلبوا على ثوابتِهِ، وحاولوا تدجينَ ناسِهِ بالقمعِ، والتّرهيب.

هنالكَ، بعدُ، عندَنا، عاجزونَ، أو مُعَجَّزون، عن إدراكِ الفرقِ بين الحالَين، وهم كالواقفِ أمامَ الشّمسِ وعيناهُ مغمضتان. وحتى اللّحظة، لا يريدونَ أن يعترفوا بأنّ ارتباطَ جماعةٍ بأجندةٍ لا تمتُّ للبنانَ بصلة، وبمرجعيّةٍ هجينةٍ مُنتدِبة، هو تدميرٌ مُمُنهَجٌ للكيانِ السياسيِّ للدولة، ومؤسّساتِها، وسيادتِها، ووحدةِ شرعيّتِها، ونهائيّةِ حضورِها، ما يقضي، تالياً، على أبجديّةِ الإستقلال، ويطعنُ بالأرضِ والتاريخِ والثّقافةِ، التي تُدرِجُ الوطنَ في هالةِ التّقديس.

إنّنا لا نُنكرُ بأنّ حريّةَ الموقفِ هي حقٌ مُكتَسَب، وليسَت مِنَّةً من أحد، لكنّ المجاهرةَ السّافرةَ بالطّلاقِ الإستراتيجيّ للوطنِ، هي عَطَبٌ لِعَصَبِ الإنتماءِ والولاء، وسلوكٌ تدميريٌّ للهويّةِ الوطنيّة، من هنا، فإنّ النّضالَ لمواجهةِ هذا السّلوكِ، غيرُ قابلٍ للتَراجع. وعلينا، في هذا الصَّدد، أن نذكِّرَ بمفهومِ الهويّةِ وأبعادِها، لأولئكَ الذين يصطنعونَ الإرتباطَ بها، أو يجاهرون بها نَظَريّاً، فالهويةُ الوطنيّةُ تشكّلُ منظومةً إجتماعيّةً وأخلاقيّةً، وقضيّةَ التزامٍ بِقِيَمٍ جوهريّةٍ تَتَنَزَّلُ في زمنِ الوطن، وتُحدّدُ حقيقةَ المنتسبين إليه. وهي سلوكٌ ونمطُ حياةٍ، وطموحٌ وجوديّ، وأساسُ ترسيخِ الوحدةِ الوطنيّة، وهي مُعطًى مقدَّسٌ ثابتٌ ونهائيّ، ما يُبعدُها عن المراجعةِ والنّقدِ والتّقويم، وعن تشويهها بتفسيراتٍ مستمدَّةٍ من حفريّاتِ الأعراقِ المنتهيةِ الصلاحيّة.

واستناداً الى مجموعِ الشّروطِ الإلزاميّةِ الواجبة، فكريّاً وأخلاقيّاً واتّزاناً ولائيّاً، لكي يَحوزَ المُنتمني الى الوطنِ، لَقَبَ ” مواطن “، هل تتطابقُ مواصفاتُ الآنِفي الذِّكر، مع المعاييرِ المُدرَجةِ في توصيفِ مفهومِ الهويّةِ والإلتزامِ بقواعدِها ؟؟؟ إنّ اقتناءَ بطاقةِ الهويّة، لا يعني أنّ حاملَها قد تولَّدَت عندَه ثقافةُ الإنتماء، ولا يشكّلُ، بالضرورةِ، دليلاً على ولائِهِ للوطن، فمعيارُ التّرابطِ يتمظهرُ في السّلوكِ الذي يترجمُ مشاعرَ الإعتزازِ بالإنتماءِ، الى حدِّ الإندفاعِ للتضحيةِ في سبيلِ حمايةِ البلاد، وكرامتِها، وسيادتِها، ولَو على كلِّ شِبرٍ من الأرضِ شهيد. وإذا كان الولاءُ أولويّةً في علاقةِ المواطنِ بالوطن، والقيمةَ العليا التي ينبغي أن تكونَ متحكّمةً في وجدانِ المواطنين، فهل يمكنُ اعتبارُ الذين استبدلوا ولاءَهم للبنانَ بولاءٍ رديفٍ لِما وراء الحدود، أو الإنتهازيّين الذين يُجارونَ هؤلاءِ، والمُتَصَدَّعي الولاءِ الوطنيّ، هل يمكنُ اعتبارُ هؤلاءِ وأولئكَ، ملتزِمينَ بقِيَمِ الوطنيّةِ الجامعة، أو أنّهم ذَوو سلوكٍ تدميريٍّ، سلبيّ، مُنقلِبٍ على مفهومِ الولاء الصّحيح ؟؟

إنّ الصورةَ قاتمةٌ بشدّة، لأنّ مواقفَ هؤلاءِ الإصطناعيّين وطنيّاً، ليست سوى انحطاطٍ عقيمٍ يُنبئُ بزعزعةِ حضورِ الوطنِ، كياناً ودولةً، وكأنّهُ أُدخِلَ في حالةِ الجمودِ التي تميّزُ الأشياءَ المَيتة. بالإضافةِ الى أنّ الشّروحَ التي تُنسَجُ لتبريرِ هذه المواقف، لا تمتُّ الى المقبوليّة، بافتقارِها الى المنهجيةِ العقليّةِ المرتَّبةِ الأدوات، وبغَوصِها في فظاعةِ التخبّطِ والتّناقض، وبخطرِها الذي يلوّثُ قناعةَ النّاسِ، وبجعلِها الوطنَ يُقيمُ في حيثيّةٍ معزولة، وكأنّه ذو وجودٍ مؤقَّت…

إنّ اللّحظةَ التاريخيّةَ التي يمرُّ بها لبنان، تجعلُ المشهدَ العامَ يتعثَّرُ برهاناتٍ إيديولوجيّةٍ متطرّفةٍ تُحدِثُ خللاً في رسمِ الخطِّ الإستراتيجيّ للوطن، لأنّ الذين يمسكونَ بقرارِه، ويتحكّمونَ بمصيرِه، وببُعدِهِ الجيوسياسيّ، يروّجون أنّ الأهدافَ التي خُتِمَ عليها الوطنُ قد تجاوزتها الصّيرورةُ التاريخية، وأنّ النّسخةَ التي ابتُكِرَت في سِفرِ تكوينِ لبنانَ وطناً منفتحاً على التمدّن، لم تَعُدْ مستساغةً أو محطَّ اهتمامِ الرجعيّينَ، وهنا يكمنُ الخطرُ على وجودِ البلادِ ممرّاً إلزاميّاً لتخالطِ النّاس، ومُلتقًى للحضارات.
إنّ الصّورةَ قاتمةٌ جدّاً، ففي ظلِّ حكمِ غير المُنتمين الى لبنان، الذين لا يمحضونَه ولاءَهم، واجهَ الناسُ، ويواجهون، حالةً من الذلِّ، والظلمِ، والعَوَزِ، والمهانةِ، والهجرةِ، واليأس، هي الأشَدُّ قساوةً وسوءاً في تاريخهم. وإنّ الإنقلابَ الذي نُفِّذ، طوعاً وقسراً، لم يُؤَدِّ إلّا الى استئثارِ المستَقوينَ ومَنْ يرتهنونَ بهم، واستبدادِهم، وفرضِهم أهدافاً مشبوهةً مستوردةً، ومشروعاً إيديولوجيّاً بعيداً عن أيِّ حقٍّ بالرّخاءِ، والتَقدُّم، ما أسقطَ البلادَ في هاويةِ التمزّقِ، ودفعَ بها الى واقعٍ هو أشدُّ قُبحاً من جهنّم. إنّ عمليّةَ التحوّلِ نحوَ مشروعِ ثقافةِ الموت، ونحو التركيبةِ العنصريّة، والتطرّفيّة، ونحو تأسيسٍ بلدٍ بديلٍ يُطيحُ بالحريّات، ونحوَ وطنٍ مُعَسكَر، يُبرِزُ الحاجةَ الملحّةَ ليسَ الى منشوراتٍ، وندواتٍ، وخُطَب، إنّما الى تحرّكٍ فاعلٍ ومستمرٍ، في عواصمِ العالَم، وتنشيطٍ للّوبي اللبنانيّ لكي يقضَّ أركانُهُ مضاجعَ المُمسِكينَ بالقرارِ الدّوليّ، صِغارِهم وكبارِهم، وبدونِ انقطاع، لكي يُسرِعَ هؤلاءِ في إيجادِ حلٍّ لمعضلةِ لبنان، بما يتلاءَمُ مع مُرتجى أهلِهِ بالسّلامِ، والطمأنينةِ الى المستقبل… والقُدرةُ في الإرادة.

Share.

Powered by WooCommerce

Exit mobile version