مصباح العلي

في سنواتي الأولى، الصدمة كانت عارمة حين علمت عدم وجود قرابة تربطنا ب”أم اسعد الورد”، وقتها سمعت للمرة الأولى مصطلحات: الدين أو الإسلام و المسيحية ، الحرب والهدنة ، الهجرة و المستقبل.
لتكر بعدها،الأسئلة الوجودية عن الله و التكوين كما الصيرورة البشرية ، ما انعكس لاحقا بالاطلاع على النظريات الفلسفية و سبل نشوء المجتمعات كما تغيراتها.

بزبينا، بالنسبة لي تعد مساحة الاكتشافات، إلى الحواس الأولى كما الانطباعات ، لم تكن منبع الذاكرة فحسب ولا مرتع الأحلام فقط .

بل هي أكثر من ذلك ، فالعمر انقضى النصف منه فيما لا تزال حتى اليوم تنخر ثنايا القلب، و تنتابني رغبة بالعودة إليها يوما و تمضية ما تبقى من عيش في هذه الدنيا ، رغم الرعاع و ما أكثرهم في الوقت الحاضر.

في بزبينا، تشكلت الذاكرة من البيت الفقير الجميل ومع جدي الفلاح البسيط . فكأني من الشباك الخشبي العتيق أطل على كل العالم ، و اليوم أحن إلى كل تفاصيلها:
إلى خرير المياه في السواقي.
إلى دروب البساتين ، و تحديدا طريق التوت البرية .
إلى السماء الزرقاء نهارا ،كما نجومها و قمرها ليلا.
إلى جوزة الخوري المعمرة .
إلى دكانة العم نجيب لشراء فستق عبيد .
حتى أحن إلى إنتظار عودة أبي عند البوابة .

أما قمة المتعة، فحين كان يصطحبني جدي بعد الظهر إلى بستانه خلف بيت الورد حيث الصغيرات الجميلات، أو صعودا كي يشرب القهوة عند ابنة شقيقه ” كوكب”.

كسائر البشر، الطفولة هي مرحلة البراءة بامتياز، لذلك شكلت “الحارة الريفية ” بكونها المثال الساطع عن الفردوس الأرضي، علما بأنها ليست كذلك بالواقع، لكن رغم شظف العيش، ثمة سكينة مدهشة كامنة في نفوس أهلها لا مثيل لها.
هناك تركت أجمل المشاعر، و مضيت صوب الحياة مغامرا أو طموحا، و هناك أيضا تعرفت على نبل المشاعر، أهمها على الإطلاق القدرة على الصبر والعطاء والمحبة.

بهذا المعنى ، “ام اسعد الورد” كانت تفلش عاطفتها على الجميع، حتى اليوم استذكر كلماتها بصوتها الحنون المرتجف ” كيفك يا حبيبي “، تلك هي بنظري المحبة دون مقابل كما هي الدليل عن إنسانية غير مرتبطة بغاية أو مصلحة .

ضمن قناعاتي ، لا اعترف بالقدر و لا أؤمن بالصدفة، فالإنسان يحدد مصيره أو خياراته كما يرغب، لكن لكل قاعدة استثناء ،خصوصا إذا ما اهتز كيان الروح في حادثة ما ، فيرجعها لأربعين عاما إلى الوراء و اكثر ، فيعود الإنسان إلى ذاته .

عندما طلب مني وزير الإعلام التواصل مع الصحافية كارمن جوخدار للتنسيق معها في زيارة تضامن مع الصحافيين على الجنوب ، انتابني شعور بمعرفة سابقة أو ما شابه، تعزز الأمر لدى زيارتها في المستشفى بعد تعرضها و الصحافيين للإصابة جراء القصف الإسرائيلي ، الوجه ذات الطابع الملائكي يدور في مخيلتي ، يفتش عن أمر ما أكثر من التضامن مع زملاء تعرضوا لعملية اغتيال موصوفة .

انكشف السر بالصدفة، عندما أبلغني الصديق أدوار دون سابق إنذار بأن كارمن ابنة بنت خالته أي حفيدة ” ام اسعد الورد “، شعرت بالارتباك ليس من وقع الصدفة أو حجم الصدمة ، بل من ثقل الشعور بالانتماء إلى من غاب و ما مضى.
رحلت ” أم اسعد ” و كلنا راحلون ، لكن أتوق اليوم إلى وجهها المحب و بسمتها الساحرة ، ربما لأن التوحش أصبح من سمة معظم البشر، أو كون بزبينا كامنة في ثنايا القلب و الروح حتى

Share.

Comments are closed.

Exit mobile version