الوسيط «المثالي» بين لبنان وإسرائيل يبقى عاموس هوكشتاين. لذلك، هو يقفز من هنا إلى هناك في شكل سريع ومفاجئ، وبكامل معنوياته. فالرجل يثق في أنّ الطرفين سيصغيان إليه ويتجاوبان. والمطلوب فقط تذكيرهما بضرورة التنبّه، لأنّ للحرب أحكامها الميدانية. وأحياناً، ينجَرّ إليها المتقاتلون بلا تخطيط.

ليست هناك مخاوف في واشنطن من خروج الوضع عن السيطرة على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية واندلاع حرب واسعة ومفتوحة. وبالتأكيد، لا «حزب الله» ولا إسرائيل يريدان ذلك. لكن في تل أبيب أصواتاً تزايد تطرّفاً على نتنياهو، تدعوه إلى استثمار الدعم الدولي وهدم إهدار الفرصة لتسديد ضربة تضعف «حزب الله» في موازاة إضعاف «حماس» في غزة، وهذا ما يربح إسرائيل لسنوات.

المعلومات تشير إلى أنّ الأميركيين نقلوا إلى إسرائيل رفضهم الصارم لأي مغامرة من هذا النوع، بل إنهم أبلغوا حكومة نتنياهو وقياداته العسكرية أن واشنطن ترسم خطاً أحمر حول لبنان، ولن تمنح إسرائيل أي تغطية أو فرصة لتكرار حرب 2006 عليه. وقد أبدوا استهجانهم لإقدام إسرائيل على توجيه ضربات لا تندرج في سياق المناوشات الدائرة على الحدود، بل تتجاوزها بشكل غير مبرر.

وحتى اليوم، يلتزم الإسرائيليون خطاً أحمر في عملياتهم الجوية، إذ يشن طيرانهم غارات على أهداف لإيران و»حزب الله» في سوريا، لكنه لا يفعل ذلك في الأراضي اللبنانية.

طبعاً في المقابل، الأميركيون يعبّرون للإسرائيليين عن حرصهم على منع «حزب الله» من التمادي في خرق القرار 1701، خصوصاً لجهة تَمركز نخبة قواته المقاتلة في جنوب خط الليطاني، واستخدامه صواريخ نوعية، كـ»بركان» في ضرب شمال إسرائيل، وبكثافة غير معهودة، ما يهدّد باستثارة ردود تقود إلى انفلات الأمور من ضوابطها.

ولتدعيم صمامات الأمان، وفيما كان هوكشتاين يعمل على تبريد الرؤوس الحامية في إسرائيل، ارتأت واشنطن الاستعانة بالشريك الفرنسي أيضاً، باعتباره صمام الأمان الأكثر خصوصية وفهماً للوضع اللبناني. ولذلك، أعلن جان إيف لودريان، عبر «فرانس إنفو»، أنه عائد قريباً إلى بيروت لاستئناف مساعيه. وثمة مؤشرات إلى أن زيارة وزير خارجية إيران حسين أمير عبداللهيان لبيروت تهدف أيضاً إلى تأكيد الضوابط وليس العكس.

فطهران مقتنعة بأن التوازنات العسكرية والسياسية في منطقة شرق المتوسط ليست في مصلحتها اليوم، وأن أي حرب جنوباً ستكبّد لبنان و»حزب الله» خسائر تفوق بأضعاف ما ستتكبده إسرائيل، وستهدد نفوذ إيران الذي جهدت كثيراً ودفعت أثماناً باهظة من أجل استتبابه.

وفي اختصار، وفيما يسعى الأميركيون إلى تحقيق وقف للنار وتبادل للأسرى في غزة، فإنهم يتوجّسون من احتمال انجرار نتنياهو إلى مغامرة في لبنان تهدف إلى استفراد «حزب الله»، فيما تكون «حماس» مكتوفة الأيدي بالهدنة وعمليات تبادل الرهائن، بعدما عمل الجيش الإسرائيلي حتى اليوم عكس ذلك، إذ قام بضرب غزة واستفراد «حماس»، فيما «حزب الله» بقي ملتزماً ضوابط الخطوط الحمر في الجنوب. وفي الحالين، مصلحة إسرائيل هي فك الارتباط بين غزة ولبنان، لئلا تضطر إلى خوض الحرب على جبهات متعددة.

وقد أوضح «حزب الله»، على لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله، أنه اليوم يقوم بإشغال إسرائيل على حدودها الشمالية بهدف إلهاء الجيش الإسرائيلي والحد من ضغوطه العسكرية على «حماس» في غزة. لكن الضربات الإسرائيلية في غزة ستتحول حرب استنزاف تطول لأشهر، على الأرجح، تحقيقاً لأهداف سياسية وأمنية وديموغرافية يعمل نتنياهو لتحقيقها.

وفي هذه الوضعية، سيكون «الحزب» أمام استحقاق الخيارات: كيف سيتصرف في الأشهر المقبلة، وإلى أي حد سيرفع سقف المواجهة على حدود لبنان؟ وفي عبارة أخرى: هل سيؤدي دخول غزة في حرب استنزاف إلى دخول الجنوب أيضاً في حرب استنزاف موازية؟ وما هي قدرة لبنان على تحمّل حرب طويلة الأمد من هذا النوع؟ وهل هناك ضوابط كافية لمنع اشتعال شرارة تقود إلى حرب شاملة ومفتوحة؟

على الأرجح، هذا ما تعمل له واشنطن من خلال هوكشتاين، وستعمل له باريس من خلال لودريان في الجولة التي أعلن عنها. ومن الواضح أن إدارة جو بايدن تحرص على الموازنة ما بين طمأنة إسرائيل وإبقاء خطوط التواصل قائمة مع طهران. وهذا ما يزعج نتنياهو والفريق المتعاطف معه داخل حكومته. ولذلك، هو قد يُماطل في المفاوضات السياسية وفي حرب الاستنزاف، ربما حتى انتهاء ولاية بايدن. وهذه المماطلة ستكون خطرة على لبنان، لأنها في أحسن الأحوال ستبقيه على كف عفريت طوال العام 2024.

 

Share.

Powered by WooCommerce

Exit mobile version