أين “الحزب” من الحرب الكبرى؟
تستمر المواجهة على حافة الهاوية في الجنوب بين «حزب الله» واسرائيل. هي تبدو أكبر من معركة موضعية وأقل من حرب واسعة، ولعلها أقرب إلى أن تكون «حرباً مقيّدة» وفق تعريف الخبراء.. ولكن، الى أين من هنا؟
من البديهي انّ أحدا لا يستطيع أن يضمن بقاء جبهة الجنوب تحت السيطرة، وسط جنوح الاحتلال في احيان عدة الى العبث بالخطوط الحمر والتحايل عليها. وبالتالي فإن القيود التي لا تزال تضبط إيقاع المواجهة على الحدود مع فلسطين المحتلة تبقى قابلة للتحلل اذا طال أمد العدوان على غزة التي تشكل «بارومتر» الوضع في الجنوب.
ويبدو واضحا انّ “الحزب” لا يستعجل حرق المراحل والأوراق، بل هو يتعاطى مع الميدان الملتهب بعقل بارد، بعيداً من الانفعالات والضغوط.
بهذا المعنى، يوحي الحزب بأنه يرفض حَشره في زاوية التوقعات المسبقة، سواء أتت من هنا أو هناك، وانما يحرص على أن تبقى خياراته وقراراته مضبوطة على توقيت «ساعته»، بحسب تقديره الاستراتيجي للمصلحة والجدوى من الذهاب في هذا الاتجاه او ذاك.
بناء عليه، لم يتأثر الحزب بالاصوات التي حَضّته على الانخراط الفوري في حرب كبرى نصرة لغزة، تماماً كما لم يتجاوب مع الرسائل الناعمة والخشنة التي وصلته من جهات دولية لدفعه الى التهدئة ووقف عملياته العسكرية على الحدود الجنوبية تحت طائلة المسؤولية.
بين الهرولة غير المحسوبة الى شن حرب كبرى بفعل الحماسة الزائدة، والإنكفاء الكامل عن أي مساهمة ميدانية خشية من التبعات المفترضة، اختار الحزب ان يرسم حدود دوره على طريقته، ووفق حسابات مركبة تراعي من جهة الاعتبارات الداخلية اللبنانية، والتحالف الاستراتيجي مع حركة حماس من جهة أخرى، تاركاً في الوقت نفسه الباب مفتوحا على كل الاحتمالات، ربطاً بتطوّر الموقف في قطاع غزة وبنمط سلوك العدو على الجبهة الجنوبية.
اما لماذا لم يبادر الحزب منذ الايام الأولى للعدوان الى الانخراط الكامل في الحرب وفتح جبهة الجنوب على مصراعيها، كما كان يتمنى بعض المناصرين له وكذلك المزايدين عليه؟ فيعود الى اسباب عدة، من اهمها ان مثل هذا القرار المصيري لا يُتخذ بشكل مُرتجل او من باب «فشة الخلق»، لا سيما ان عملية طوفان الأقصى لم تكن منسقة مع الحزب، وحتى انه لم يكن على علم مسبق بها، بعدما أحيطت بسرية تامة وتكتم شديد لضرورات انجاحها، وهذا امر تفهّمه الحزب بالكامل وأشاد به، في اعتباره كان أحد أهم عناصر تفوق «حماس» المُبهر في هجوم 7 تشرين الأول «الخيالي».
الا ان هناك وجهاً آخر لهذه الحقيقة وهو انه لا يمكن لوم الحزب على عدم مبادرته فورا الى خوض حرب واسعة، لأنّ الظروف الموضوعية حتّمت ان لا يكون هذه المرة شريكاً في إطلاق شرارتها وصوغ مقدماتها، بينما كان من الممكن أن يتخذ السيناريو مَنحى مغايرا لو ان محور المقاومة قرر مجتمعاً فتح الجبهات كلها، وفي توقيت واحد على العدو الاسرائيلي، ضمن خطة متكاملة تلحظ توزيعا مسبقا للادوار والواجبات.
ثم ان الاحتلال سارعَ تلقائياً تحت وطأة صدمة 7 تشرين الأول الى اعلان حالة الاستنفار القصوى وحشد قواته واسلحته في الجليل والشمال الفلسطيني المحتل تحسّباً لأي هجوم من الجهة اللبنانية، اي انه عزّز جهوزيته وبات متيقظا ومتوثبا، ما حرم الحزب من عنصر المباغتة وقلّص نسبيا شروط الضربة الافتتاحية.
ومن المفيد الاشارة في هذا السياق الى ان نصرالله لفت في خطابه الأخير الى ان معركتنا لم تصل إلى مرحلة الانتصار بالضربة القاضية وما زلنا نحتاج إلى وقت، ولكنّنا ننتصر بالنقاط، ما يُفضي الى الاستنتاج بأن الحرب الحالية لن تكون نهاية المطاف بل هي محطة اضافية، ولو نوعية ومتقدمة، في مسار تراكمي.
لا يعني ذلك أن فرضية التدحرج الى المواجهة الشاملة سقطت، ولعل الامين العام لـ «حزب الله» حسن نصرالله اعطى إشارة واضحة الى طبيعة الظرف الذي قد يستوجب التدخل العسكري الواسع عندما أكد انّ هذه الحرب يجب أن تنتهي الى إنتصار «حماس»، اي ان إلحاق الهزيمة بها ممنوع ويشكل احد اهم الخطوط الحمر التي لن يُسمح بأن يتم تجاوزها.
وربما استعادة مجريات سيناريو تدخل الحزب في الحرب السورية، تسهّل محاكاة سلوكه حيال الحرب الإسرائيلية على غزة. في المراحل الاولى من الصراع في سوريا ارتأى ان يكتفي بالمراقبة الا انه عندما شعر انّ خطرا استراتيجيا بات يهدد موقعها الذي يمثّل واسطة العقد في محور المقاومة والممانعة سارعَ الي الانخراط بكل ثقله في قتال استباقي لمعرفته بأنه اذا لم يفعل، سيكون هو الهدف التالي وسيصل المد التكفيري الى الداخل اللبناني.
وراهناً، لم يجد الحزب بعد داعياً لتوسيع حجم مشاركته في المواجهة نحو الحرب المفتوحة ما دامت «حماس» صامدة وقادرة على استنزاف الاسرائيلي، ولكن متى يتبيّن له أنها ستكون عرضة لتهديد وجودي حقيقي فإنّ حساباته ستتغير لأنّ اي شطب لها من المعادلة سيصيب المحور في الصميم وسيمهّد للاستدارة نحو المقاومة في لبنان بعد حين.