كعادته، لم يخيب الأمين العام لـ”حزب الله” المنتظرين لكلماته، وقد ألقى خطاباً تاريخياً غاية في الذكاء، جمع فيه مخاطبة جمهوره وحلفائه وأعدائه والمتابعين على حد سواء، وقد أخذ كل منهم ما يريد، وفهم ما يقصد، في خلال ساعة ونيف من الكلام حول القضية المركزية التي تشغل العالم اليوم.
بعد حوالي الشهر من الانتظار، منذ السابع من تشرين الأول الماضي، أطل السيد حسن نصر الله على العالم هذه المرة ليقول كلمة المقاومة، ويحدد الثوابت التي سوف تُبنى عليها الأيام المقبلة، من دون الانجرار إلى العواطف التي تصبح مُضرّة في اللحظات المصيرية.
وعلى الرغم من أن هذا الخطاب يحتاج إلى الكثير من التأني في قراءة مفرداته، كما كان هناك تأنٍ في اختيارها. إلا أنه، وفي قراءة سريعة له، يمكن تحديد مجموعة من الأهداف التي سعى وراءها الأمين العام لـ”حزب الله” وحققها بالفعل:
ـ أولاً، قرأ جيداً حاجة جمهوره للإطلالة والاستماع منه شخصياً لما جرى ويجري، ولذا اختار توقيتاً مفصلياً بين ما جرى وبين ما سيجري، وأطل على الناس شارحاً لهم الأمور، وممهداً لهم على الصعيد النفسي والعاطفي لما يمكن أن يلتبس عليهم في قراءتهم للنتائج التي يمكن أن تظهر خلال الأيام أو الأسابيع القادمة.
ـ ثانياً، كان لا بد من وضع حد للتكهّنات التي زادت في المدة السابقة وبُني عليها الكثير من التحليلات الخاطئة، فكان لابد من توضيح الأمور قبل انجرار النخبة إلى حرف الناس نحو ما يريده العدو.
ـ ثالثاً، إظهار وحدة محور المقاومة، وتناغمه، وتنسيقه الدائم، بل ومركزية القيادة على الرغم من لامركزية التنفيذ. وهي النقطة المهمة التي ظهرت في طيات كلمات السيد نصر الله، والتي بيّن فيها دوره ومركزه في هذه المعركة.
ـ رابعاً، وهي النقطة المهمة في خطابه، والتي تتمركز حول الموقف الذي سيحدد الاتجاهات التي تذهب إليه، فقد أعلن السيد نصر الله جواباً كان لا بد من إيصاله للأميركي تحت النار، يقضي بعدم التراجع أمام التهديدات التي أرسلت إلى الحزب وجهات أخرى في محور المقاومة. وهذا يعني أن الكرة باتت بالكامل في الملعب الأميركي، ولم يعد هناك مجال لبناء المواقف سوى ما يمكن أن يحصل في المفاوضات القائمة تحت مرمى النيران. وعليه، يمكن الاستخلاص من كلام الأمين العام لـ”حزب الله” ما يلي:
إن على الولايات المتحدة أن تتخذ قرار إنهاء الحرب الدموية على قطاع غزة، من دون تحقيق الأهداف المعلنة من قبل الصهاينة خلال الشهر المنصرم، مما يحقق الهدفين المعلنَيْن من قبل السيد نصر الله، وهما وقف الحرب وانتصار “حماس”، وذلك عبر التخلي عن بنيامين نتنياهو ليكون كبش المحرقة، إذ لم يعد لدى الولايات المتحدة من طريقة لإنهاء القتال سوى التفريط بنتنياهو، وهو ما يعني حرفياً عدم قدرة الكيان الصهيوني على المسّ بحركة “حماس”، وبالتالي تثبيت معادلة جديدة في المنطقة تقضي باعتبار الكيان ـ “حماس”، ورفع مستوى الحزب إلى مصاف المواجهة الأميركية المباشرة.
ومن جملة الأهداف التي ستتحقق، إذا ما رضخت الولايات المتحدة لهذا الخيار، هو إعادة ترتيب الأوراق بين الإسلام السياسي الشيعي والإسلام السياسي السني في المنطقة، والمتمثل بشكل جوهري بحركة “الإخوان المسلمين”، الأمر الذي سيؤدي إلى خلط الأوراق بين دول المنطقة وتحالفاتها.
وأما إذا لم يرضخ الطرف الأميركي بالحل المقدم إليه، وكسب المزيد من الوقت لإعادة ترتيب أوراقه في المنطقة، فإن قرار المقاومة سيكون تحقيق هذه الأهداف رغماً عنه، وبعبارة أخرى: إخراج الولايات المتحدة من المنطقة، وإعادة رسم خريطتها وفقاً لقواعد المنتصر.