يترقب اللبنانيون بصبر مشوب بالحذر الشديد مآل الحرب على غزة وخطر تمدّد لهيبها الى لبنان، فيما لسان حالهم يقول “ما عاد فينا نحمل”. فما بقي من بنى تحتية ومقومات صمود اقتصادي بالكاد يكفي لتسيير عجلة الاقتصاد والدولة، قد ينتهي في يوم واحد، فيما تحتاج إعادة ترميمه إلى سنوات وسنوات، اللهم إلا إذا توافر التمويل والمساعدة في ظل الظروف السياسية والمواقف السائدة حالياً تجاه لبنان.
ثلثا مدخول الدولة بالعملتين اللبنانية والأميركية يكفي صاروخين لإلغائهما: واحد على المطار والثاني على بقايا المرفأ، فيما تتكفل صواريخ أخرى بما بقي من مرافئ ومرافق خدماتية ليدخل لبنان كلياً في دائرة الانهيار الشامل.
الانهيار الكبير سيُترجم في 3 معضلات، انهيار غير ممكن كبح لجامه في سعر الصرف، ثانياً عزل لبنان عن التجارة الدولية تصديراً واستيراداً، ثالثاً التصفير في عدد السياح والمغتربين. والمعضلتان الأخيرتان ستحرمان لبنان من العملة الصعبة التي يعوّل عليها لبناء مسار إنقاذي كان قد بدأ من خلال تثبيت سعر الصرف منذ بداية الصيف الماضي واستيعاب الموسم السياحي الناجح جداً والذي روى ظمأ السوق اللبنانية للدولار بشكل أكثر من كافٍ نسبة للأوضاع الاقتصادية الراهنة.
في تقرير لها عن “المالية العامة في مواجهة المخاطر المرتقبة في الظروف الراهنة”، دقت وزارة المال ناقوس التحذير من الانعكاسات الخطيرة التي قد تصيب البنية الخدماتية في لبنان والاقتصاد عموما وما ستيرتب عن ذلك من السقوط أكثر نحو القعر.
63% من الإيرادات تجبى من المطار والمرافئ
لا يمتلك لبنان المقومات اللازمة لمواجهة تداعيات الحرب عليه، وخصوصاً بعد تعرّضه لأزمات متتالية وحادة استمرت لأكثر من 4 سنوات حتى اليوم، انعكست تقلصاً في حجم الاقتصاد من نحو 50 مليار دولار عام 2019 إلى ما بين 16-18 مليار دولار وهو المتوقع لعام 2023، ورزوحه تحت وطأة ضغوط تضخمية مرتفعة جداً – CPI 230%) 3 digits inflation وفقاً لمؤشر الأسعار بحسب إدارة الإحصاء المركزي لشهر آب 2023). والاستقرار في سعر الصرف الذي سعينا إليه وشهدناه في الأشهر الماضية ليس محصناً ومستداماً مع غياب “عامل الثقة” الذي له الدور الأبرز في تحفيز الاستقرار ولجم دوامة التضخم والتقلبات الحادة في سعر الصرف التي من شأنها أن تؤدي حكماً الى زيادة في نسب الفقر في ظل أوضاع معيشية متردّية أساساً.
تشير وزارة المال الى المخاطر التي قد تهدد إيرادات الدولة، ولعل أبرزها الإيرادات من مطار رفيق الحريري الدولي والمرافئ العامة البحرية، إذ إن أي تعطيل وتحديداً شل حركة التجارة الدولية من شأنه أن يهدّد واردات الخزينة، بدليل أن نحو 63% من مجمل الواردات اليوم تُجبى من المرافئ والمطار (رسوم المطار ورسوم المرافئ وجميع الضرائب والرسوم المستوفاة على الاستيراد).
الى ذلك، فإن المخاطر التي تواجهها البلاد اليوم بالإضافة الى ما نشهده من عدم استقرار لجهة الأوضاع الأمنية من شأنها أن تؤدي، وفق وزارة المال، الى شلل في حركة الاستهلاك الداخلي والاستثمار الخجول الذي بدأنا نلمسه أخيراً. وهذا الأمر سيعوق حتماً استعادة النشاط الاقتصادي بما يهدد موارد الخزينة ولا سيما تلك المتأتية من تحصيل الرسوم والضرائب على الاستهلاك، إذ تؤكد وزارة المال أن أي تراجع في واردات الخزينة خصوصاً في زمن استحالة الاستقراض، من الأسواق المالية ومن الخارج، يهدّد القدرة على استمرار الصرف من الخزينة وحكماً تيسير المرفق العام، لا بل اللجوء من جديد الى التمويل من المصرف المركزي (monetization) الذي كانت تكلفته باهظة على الاقتصاد. كما أن التعثر الحاصل في تسديد المستحقات منذ ربيع عام 2020، وتراكم المتأخرات تجاه الجهات المانحة، الصناديق العربية وغيرها من المؤسسات الدولية، هو عائق رئيسي لأي عملية استقراض بغية إغاثة الشعب اللبناني في حالات الطوارئ، او تأمين المستلزمات الأساسية له او إعادة إعمار البنى التحتية في حال هدمها. فالبنى التحتية اليوم هي أساساً مترهلة وتعاني من أثر الأزمة المالية لناحية التقصير في أعمال الصيانة والتحديث، وبناءً على ذلك فإن أي ضرر يلحق بها سوف يصعب معه تأمين الأموال الكافية لإعادة البناء أو التأهيل.
استنزاف الاحتياطي!
أما على الصعيد النقدي، فتشير وزارة المال الى أن “مواجهة المخاطر ستؤدي لا محالة الى استنزاف الاحتياطي بالعملات الأجنبية وذلك بغية تأمين الحاجات التمويلية، ولا سيما لتغطية العجز في ميزان المدفوعات وربما التراجع المرتقب في التدفقات المالية الى لبنان remittances جراء توقف النشاط السياحي، كما والعجز في الميزان التجاري بحسب تقديرات صندوق النقد الدولي في تقريره 2023 Article TV June، والاحتياطي بالعملات الاجنبية البلغ آنذاك نحو 9.5 مليارات دولار ما يغطي خمسة أشهر من الاستيراد.
فهل يمكن مواجهة الأزمة على صعيد المالية العامة؟ في تقريرها تؤكد وزارة المال أنها عملت منذ بداية العام على تمكين إدارة السيولة بالتنسيق مع السلطة النقدية من خلال تعزيز الواردات وتحصيل جزء من الضرائب والرسوم نقداً، وذلك بهدف ضبط النقد بالتداول، وهذا ما عزز الى حد ما الاستقرار في سعر الصرف خلال الأشهر الأخيرة. وتستكمل الوزارة هذا المسار وتستمر في اتخاذ الإجراءات اللازمة والداعمة لإدارة السيولة بالسبل الفضلى المتاحة بغية تفادي أي ضغوط على سعر الصرف.
فالواردات النقدية بالليرة اللبنانية تشكل حالياً نحو 52% من مجمل الواردات، وهي إيرادات تتيح للخزينة إمكانية شراء العملات الأجنبية من السوق المحلية لتلبية الحاجات التمويلية بالتنسيق مع المصرف المركزي دون إحداث ضغط على الاستقرار النقدي.
ولكن مواجهة الأزمة تتطلب إعادة النظر في أولويات الإنفاق في ظل الموارد المتاحة، ولذا فإن تيسير المرفق العام يُعدّ أولوية قصوى بما في ذلك:
– صرف الرواتب والأجور والتعويضات لجميع العاملين في القطاع العام والمتقاعدين وتأمين قيمة المحروقات للسلك العسكري والأمن والدفاع.
– تأمين الأدوية والاحتياجات الأساسية في ما يخص الإنفاق الاجتماعي (الصحة والتعليم).
– تسديد الاشتراكات في المؤسسات الإقليمية والدولية.
على ضوء التطورات الأخيرة، ترى وزارة المال أنه يمكن البحث مع الأطراف المعنية (رئاسة مجلس الوزراء، مجلس الإنماء والإعمار)، في إمكانية تأجيل دفع ما يمكن من الاستحقاقات لا سيما تلك التي بالعملات الأجنبية (أي أقساط الديون الخارجية وذلك لتفادي استنزاف الموارد المتاحة بالدولار الأميركي بغية تأمين نافذة أوسع لتمويل الاحتياجات الأساسية كما وتيسير المرفق العام). علماً بأنه غالباً ما يكون عدم تسديد المستحقات له أبعاد سلبية على المجتمع المدني، مثال على ذلك إن بعض الإنفاق الاجتماعي كدعم شبكة الأمان الاجتماعي، ومساندة الأسر الأكثر فقراً يُموَّل بواسطة القروض الميسرة من البنك الدولي، وهذا ما يلزم الدولة اللبنانية بتسديد المستحقات للبنك تفادياً لأي توقف للسحب من القروض ESS second additional financing USD 300 million. ولا بد من الإشارة الى أن وزارة المال قد دفعت فعلاً مستحقاتها الى المجموعة الأوروبية/البنك الأوروبي للاستثمار لأن عدم تسديد هذه المتأخرات من الدولة اللبنانية كاد يعوق برنامج تمويلهم للقطاع الخاص.
يترقب اللبنانيون بصبر مشوب بالحذر الشديد مآل الحرب على غزة وخطر تمدّد لهيبها الى لبنان، فيما لسان حالهم يقول “ما عاد فينا نحمل”. فما بقي من بنى تحتية ومقومات صمود اقتصادي بالكاد يكفي لتسيير عجلة الاقتصاد والدولة، قد ينتهي في يوم واحد، فيما تحتاج إعادة ترميمه إلى سنوات وسنوات، اللهم إلا إذا توافر التمويل والمساعدة في ظل الظروف السياسية والمواقف السائدة حالياً تجاه لبنان.