كتب طوني عطية في “نداء الوطن”:
مع انطلاق «طوفان الأقصى» فجر السابع من تشرين الأوّل، ودخول قطاع غزّة بحور الدمار والقصف الإسرائيلي العنيف والأعمى من دون تمييز بين أهداف مدنية وعسكرية، يطوف «شبح الغرق» محيط سفينة اللبنانيين التي تلاطمها الأمواج من كلّ صوب. جعبتهم ممتلئة بالأزمات الاقتصادية. بنيتهم التحتية غير مُجهّزة لأمطار تشرين، فكيف بطوفانٍ! لا ملاجئ تأويهم ولا ملجأ رسميّاً يُطمئنهم، فالحكومات لا تمون سوى على سراياها!
يراقبون عبر متاريس ويلاتهم اليومية الداخلية، مجريات حدودهم الجنوبية. هل يصمد الخطّ الأزرق أمام تواصل المعارك وارتفاع حدّتها على طوله وعرضه، أمّ تتوسع لتخرج عن سيطرته وتسقط معه الخطوط الحمراء بضوء أخضر ما؟ وفي انتظار ما ستؤول إليه التطورّات على الجبهة الغزّاوية، وما إذا كانت القذائف والصواريخ كفيلة بربط «ساحات الممانعة»، أم أنّ موازين القوى الإقليمية والدوليّة وحساباتها المعقّدة ستعفيها من ذلك، نُلقي الضوء على خريطة النيران في جنوب لبنان. مداها ورقعتها وأهميّتها الميدانية. وهل ترسم مسار الحرب؟
أضربني كي أضربك
سبعة عشر يوماً من المناوشات. بات المشهد شبه روتينيّ، لكنّه معزّز بحذر وخوف شديدين. حتّى الآن، تستمرّ الإشتباكات على طول الحدود، وفق قاعدة «أُضرُبني كي أَضْرُبكَ». عقب حرب تمّوز 2006، جاء القرار الأممي 1701 ليوقف إطلاق النار بين لبنان وإسرائيل، وقسّم منطقة جنوب لبنان إلى شمال الليطاني وجنوبه الذي ينقسم بدوره إلى ثلاثة قطاعات: الغربي، يمتدّ من الناقورة مروراً بعلما الشعب، يارين، الضهيرة، البستان، مروحين وصولاً إلى راميا.
يجاوره القطاع الأوسط، فيضمّ معظم قرى قضاء بنت جبيل، بدءاً من عيتا الشعب، القوزح، رميش، دبل، عين إبل، وصولاً إلى يارون وعيترون وعيناتا ومارون الراس وغيرها من القرى. ويُعدّ هذا القطاع الأكثر كثافة من الناحية السكّانية. أمّا القطاع الشرقي فيبدأ من ميس الجبل وحولا ومركبا والعديسة وصولاً إلى قرى مرجعيون ومنطقتي كفرشوبا وشبعا في حاصبيا.
حدود الإشتباكات
مع دخول «حزب الله» على خطّ المواجهة صباح الثامن من تشرين الأوّل، تركّزت الاشتباكات في القطاع الشرقي، عبر إطلاقه قذائف وصواريخ على مواقع إسرائيلية في السماقة، زبدين، رويسات العلم، وجبل الرّوس (تلة الرادار) داخل مزارع شبعا المحتلّة، ما أدى إلى ردّ إسرائيلي على مناطق غير مأهولة وخيمة أقامها «الحزب» عند الحدود منذ أشهر. أما الفصائل الفلسطينية، فبدأت هجومها من القطاع الغربي، مستهدفة مواقع حانيتا وجلّ العلام مقابل بلدتي الضهيرة وعلما الشعب.
في هذا السياق، يوضح العميد الركن المتقاعد في الجيش اللبناني شربل أبو زيد، أنّ منطقة الضهيرة تعتبر أقرب نقطة حدودية للمخيمات الفلسطينية الجنوبية في البصّ والرشيدية. كما يُعدّ سهل القليلة (قضاء صور)، مركزاً لنصب منصّات صواريخ «غراد» التي يبلغ مداها 20 كلم، و»الكاتيوشيا» (7 كلم)، وإطلاقها باتجاه مناطق حانيتا ونهاريا. فاختيار منطقة الضهيرة يرتبط بالواقع الميداني وقدرة المسلّحين الفلسطينيين على التسلّل ومحاولة اكتناف حواجز الجيش اللبناني وقوّات الأمم المتّحدة (اليونيفيل).
بعد ذلك، فُتحت المواجهات على طول القطاعات من الشرق إلى الغرب.
ولفت أبو زيد في حديث لـ»نداء الوطن»، إلى أنّ «المناوشات العسكرية» على الحدود، حسب تعريفه، تؤمّن لـ»حزب الله» نقاطاً إيجابيّة عدّة، أبرزها: تحقيق التّماس مع العدو وكشف جهوزيته، ثمّ تدمير كلّ مراكز المراقبة والتجسّس والتنصّت والحسّاسات الموجودة على أبراجه المنتشرة على طول الحدود».
واعتبر أنّ هذه الاستهدافات تؤّثر على «عيون العدوّ»، فيضطرّ إلى استخدام الطيارت من دون طيّار و»الستلايت»، ما يصعّب المناورة عليه من جهّة، وتسهيلها لصالح «حزب الله» من جهّة أخرى في حال قرّر الأخير التسلّل أو التقدّم إلى مداخل الجليل كون الكاميرات واجهزة المراقبة المنصوبة على كلّ المراكز الإسرائيلية الحدودية معطّلة. فضرب هذه المعدّات والتجهيزات تعطي «الحزب» سهولة أكبر في التحرّك».
النقاط الإستراتيجية
في سياق التحليل العسكري عن المناوشات في نقاط تُعدّ مهمّة كموقع أفيفيم الواقع مقابل يارون (القطاع الأوسط)، أوضح العميد أبو زيد أنّ «المقاتل يعمد إلى التضليل، أيّ أنّ التركيز على نقطة محدّدة لا يعني أنّ المعركة ستكون في هذا القطاع أو ذاك. لذلك، يتمّ إشغال العدو على طول الحدود والجبهات من أجل المناورة والتضليل».
وعن بعض المواقع الاستراتيجية كمارون الراس أو العديسة ومركبا على سبيل المثال (في القطاع الشرقي)، شدّد على أنّه «لم يعد هناك من نقاط إستراتيجية، أيّ أنها لا ترتبط بمواقع معيّنة، إنّما كل نقطة يُمكن أن تُسهّل حركة التسلّل والدخول إلى أراضي العدوّ، وتحديدها يرتبط بتقديرات وتقييم عناصر «حزب الله».
أمّا عن تمدّد المعارك والإشتباكات عرض الحدود، فكشف أبو زيد أنه «في المرحلة الأولى، كانت تتراوح بين 2 كيلومتر داخل الجانبين، لكن في الأيام الأخيرة، وصلت إلى عمق 5 كلم داخل الأراضي اللبنانية وفلسطين المحتلّة». وأردف أنّ هذا التوسّع لا يعني الإقتراب من «الخطوط الحمراء» أو حتّى سقوطها، أي أنّ المسرح الميداني أو العسكري ليس وحده من يحدّد مسار المعارك وتطوّرها، لذلك لا يمكن القول إنه إذا استهدفت هذه المنطقة أو هذه الرقعة قد تُعجّل في الإنزلاق نحو حرب مفتوحة».
وفق العميد الركن أبو زيد، فإنّ القضية أبعد من معركة غزّة أو «طوفان الأقصى»، فالصراع الدائر متشعّب ومعقّد ويرتبط بملفّات عديدة واستراتيجية، ولها أبعاد إقليميّة متعلّقة أيضاً بسياسة «الترانسفير» التي يعتمدها العدو الإسرائيلي لترحيل الفلسطينيين تجاه الأراضي المصرية والأردنية، اللتين شددت حكومتاهما على رفض هذا المخطّط.
وتتعلّق أيضاً بوضع اليد على النفط والغاز في الشرق الأوسط واستكمال مشروع «قناة بن غوريون» المنافس لقناة السّويس الذي انطلق عام 2020، الذي ينطلق من منطقة إيلات (الواقعة على ساحل خليج العقبة في البحر الأحمر) إلى عسقلان (شمال غزّة)، وتأمين مدى بين 10 و15 كلم شمال غزّة تكون خالية من الفلسطينيين