لم يسبق أن غامر رئيس أميركي بزيارة ساحة حرب نشطة. جو بايدن، الصهيوني زيادة، حطّ في تل أبيب معرّضاً نفسه وطائرته وفريقه للخطر. وربما كان لينبطح على الأرض كما فعل المستشار الألماني أوليف شولتز مذعوراً من صواريخ المقاومة الفلسطينية. وهو، بالمناسبة، أهدر زيارة مهمّة إلى ولاية كولورادو، وثلاثة أيام من وقته الثمين، كي لا تفوته المشاركة الشخصية والرسمية في إبادة مليونَي فلسطيني، بينما يوقّع الرئيسان الصيني شي جين بينغ والروسي فلاديمير بوتين اتفاقيات العمر.
كل هذه التضحية، مع أن إسرائيل ليست في حرب وجودية، بقناعة بايدن نفسه، الذي أعاد التأكيد أمس أنه لو لم يكن هناك إسرائيل لصنع الأميركيون إسرائيل، و«هي باقية طالما بقيت الولايات المتحدة».
الرؤساء الذين سبقوا بايدن، دائماً ما زاروا المنطقة إمّا للإعلان عن بداية حرب أو نهايتها. جورج بوش الأب زار المنطقة مرّتين، مرّة ليعلن عن عملية عاصفة الصحراء أمام جنوده في قاعدة حفر الباطن في السعودية، ثم بعد نهاية العدوان على العراق ليعلن انتصار التحالف الدولي وهزيمة الرئيس الراحل صدام حسين. جورج بوش الابن، جاء إلى المنطقة بعد احتلال بغداد ليعلن «خطاب النصر» من على حاملة طائرات، وبحرٍ من دماء العراقيين.
أما ريتشارد نيكسون، فلم يأتِ إلى المنطقة إلّا في عام 1974، بعد أشهر من نهاية حرب تشرين، وبعد اتفاق فصل القوات بين إسرائيل والقوات السورية والمصرية.
لماذا يأتي بايدن إذاً في منتصف حرب بدأت يوم 7 أكتوبر بإعلان رئيس حكومة العدوّ بنيامين نتنياهو، ولن تنتهي قبل أسابيع أو أشهر؟
بلا شكّ، أعطى بايدن، قبل زيارته لإسرائيل، ضوءاً أخضر غير مسبوق لتنفيذ «ما تستطيع»، وأمّن عناصر الجريمة عن سابق إصرارٍ وتصميم، سياسيّاً وعسكريّاً، مانحاً إياها قدرات تُضاف إلى قدراتها الذاتية، عدّةً ونوايا.
صخب القطع البحرية الأميركية، وهمّة بايدن للسفر عبر الأطلسي، يبدوان أبعد من إسرائيل نفسها، في محاولة أميركية لإعادة تشكيل المنطقة سياسياً بعد زلزال «طوفان الأقصى»، تحت عنوان «القضاء على حركة حماس».
لكنّ مشكلة الولايات المتّحدة، وبايدن، هي في اليوم التالي لنهاية الحرب، والتصوّر المتخيّل للنتائج، وهذا بحدّ ذاته مهمّ جداً في مسار الحرب نفسها. السلوك الإسرائيلي التقليدي يعقّد أهداف الحرب، إذ إن إسرائيل دائماً ما تحاول كسب أرض جديدة وتهجير أكبر عدد ممكن من السّكان، كجائزة ترضية على خسائرها، منذ عام 1948 وحتى اليوم. وهذا يعني، في حالة غزّة، تهجيراً واسعاً لسكّان القطاع والاستحواذ على أرض جديدة فارغة، كما قال نتنياهو في اليوم الأول، عن رؤية البحر من مستوطنات الغلاف.
يدرك الأميركيون بأن مشروع إفراغ الغلاف من سكانه لا يمكن أن يحصل من دون غطاء إقليمي وعربي، كما أن مسارات التطبيع العربي – الإسرائيلي، إن لم تسقط، فإنّها جُمّدت إلى أجلٍ غير مسمّى. والوضع الذي أوصل نتنياهو نفسه إليه، لا يسمح بغطاء عربي من دون تدخّل أميركي. فهل جاء للضغط على السلطة الفلسطينية والأردن ومصر لمساعدة إسرائيل وتشكيل تحالف إقليمي لمحاربة حماس بعد أن نجح سريعاً في تشكيل تحالف غربي من آباء إسرائيل الشرعيين؟
مهمّة بايدن ليست سهلة. فلا أحد، في العالميْن العربي والإسلامي سيجرؤ، وسط هذا الجنون، على أن يحمل دماء الفلسطينيين على يديه، ولا تهجيرهم، بعدما قطعت الوحشية الإسرائيلية والنفاق الغربي كل الجسور.
وإذا كانت محاولة وصْم حماس بـ«داعش» لم تصمد أكثر من يومين مع عودة المسألة الفلسطينية وامتدادها التاريخي إلى واجهة الأحداث العالمية، فإن مهمّة حشد الحلفاء في الشرق الأوسط مهمّة شبه مستحيلة. فلا محمود عباس، رئيس السلطة الفلسطينية، الوريثة المفترضة للقطاع في خطط ما بعد حماس، احتمل لقاء بايدن، ولا الملك الأردني عبدالله الثاني ذو العرش المهدّد من كلّ حدبٍ وصوب تجرّأ على ذلك. وعلى الرغم من أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لم يمانع من حيث المبدأ تهجير الفلسطينيين مقترحاً صحراء النقب بدل سيناء، إلا أنه تكفيه مصائبه الحالية. أما ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، فيطمح أن يكون زعيماً في العالم الإسلامي لا شريكاً في جريمة العصر.
تبدو المشاريع الأميركية لمأزق إسرائيل في غزّة من نوع إقناع العرب بـ«استضافة الفلسطينيين» والصمت عن تهجيرهم، وتشكيل تحالف ضد حماس، أو حتى دعم السلطة الفلسطينية لحكم غزة بما يشبه «قسد» جديدة، حلولاً غبّ الطلب وطموحاً أكبر من المقدور عليه، وطلباً للمستحيل. بعد 7 تشرين الأول، لم تعد ممكنةً إعادة الأمور إلى الوراء كما يطمح الأميركيون.