منذ بدء الهجوم “الإسرائيلي” على لبنان في خضم الحرب المستمرة بين “إسرائيل” وحزب الله، أصبحت التحذيرات التي يصدرها جيش الاحتلال من خلال المتحدث الرسمي، أفيخاي أدرعي، جزءًا أساسيًا من المعركة الإعلامية والنفسية.
فيُعلن الاحتلال بشكل دوري عبر منصات التواصل الاجتماعي مثل “إكس” (تويتر سابقاً)، عن مناطق جديدة يطلب من سكانها مغادرتها، مدعيًا وجود منشآت تابعة لحزب الله فيها.
ورغم أن هذه التحذيرات قد تبدو في ظاهرها إنسانية، غير أن القاصي والداني يعلم أن العدو لا يمهل السكان المدنيين سوى بضعة دقائق لاخلاء الأبنية المستهدفة.
إلا أن الغرض الحقيقي منها يتجاوز التحذير من القصف ليكون جزءًا من استراتيجية نفسية تهدف إلى إضعاف الروح المعنوية للمجتمع اللبناني، وزرع الفوضى والذعر بين المدنيين.
الحالة النفسية المتدهورة للمواطنين:
الهلع والترقب المستمر
عند إصدار التحذيرات، تزداد حالة الرعب بين سكان المناطق المستهدفة.
فالأوضاع تتفاقم مع كل إعلان، حيث يضطر المدنيون إلى اتخاذ قرارات صعبة تحت ضغط الوقت. فبينما يقوم البعض بمحاولة الهروب والبحث عن مكان آمن، يظل آخرون، بسبب الإرهاق أو انعدام الأمل في أماكن أخرى، يراقبون منازلهم التي يهددها القصف، في مشهد يعكس انهيار الحياة الطبيعية في المناطق المستهدفة.
مثال على ذلك، في شهر تشرين الأول 2023، حين صدرت تحذيرات “إسرائيلية” تطلب من المدنيين مغادرة الضاحية الجنوبية في بيروت.
ومع اقتراب غارات جوية عنيفة، اندفع الآلاف من السكان إلى طرقات المدينة، بينما كانت طائرات الاحتلال تشن ضرباتها على المباني والمنازل، مما أسفر عن دمار هائل.
وفي الوقت نفسه، اضطر البعض للعودة إلى منازلهم بعد توقف الغارات مؤقتًا لتفقد أضرارها أو محاولة تنظيف ما يمكن إصلاحه.
هذا السلوك يعكس حالة من الارتباك المستمر في الأوساط المدنية، حيث لا أحد يستطيع التنبؤ بمتى ستعود الغارات أو ما إذا كانت ستستهدف منزله في المرة المقبلة.
التحذيرات كأداة نفسية لتفكيك المجتمع
التحذيرات “الإسرائيلية” ليست مجرد رسالة إعلامية تهدف إلى إخلاء المدنيين من مناطق معينة، بل هي جزء من استراتيجية نفسية تهدف إلى بث الخوف وخلق حالة من الاضطراب المستمر داخل المجتمع اللبناني.
هذا التكتيك يتمثل في إظهار الاحتلال “الإسرائيلي” كحامي للمدنيين، بينما في الواقع هو يستخدم هذه التحذيرات لضرب التوازن النفسي لدى المدنيين، ويجعلهم في حالة من القلق والترقب.
على سبيل المثال، مع تكثيف الهجمات على البقاع والجنوب اللبناني، لم تكن التحذيرات التي أطلقتها “إسرائيل” للمدنيين في تلك المناطق أكثر من محاولة لترهيب السكان وإضعاف مقاومتهم النفسية.
وعلى الرغم من التطمينات التي يقدمها البعض بأن التحذيرات من شأنها أن تقلل من خسائر المدنيين، فإن الواقع كان مغايرًا، حيث استهدفت الغارات العديد من المباني التي لم يتلق سكانها أي تحذير مسبق. هذا التحايل على القانون الدولي، الذي يدعي حرص الاحتلال على حماية المدنيين، يتناقض تمامًا مع الحقيقة على الأرض.
التكنولوجيا كأداة حرب استخباراتية:
رصد وتوثيق التحركات!
في سياق الحرب الحالية بين “إسرائيل” وحزب الله، تلعب التكنولوجيا دورًا بارزًا في تعزيز القدرات الاستخباراتية لجيش العدو. فبجانب نشر التحذيرات على وسائل التواصل الاجتماعي، يستخدم الاحتلال تقنيات متقدمة في جمع المعلومات عن تحركات المدنيين والأهداف المحتملة. فيتم استخدام الأقمار الصناعية والطائرات المسيرة بشكل دائم لمراقبة المناطق المستهدفة.
على سبيل المثال، خلال الهجمات على القرى الجنوبية مثل “عيترون” و”مروحين”، كانت الطائرات المسيرة تتواجد فوق هذه المناطق بشكل شبه دائم، تراقب حركة السيارات والأفراد. وقد وثقت تقارير إعلامية أن الطائرات المسيرة كانت تتابع تحركات المدنيين الذين يحاولون الهروب من القصف، وهو ما سمح للاحتلال بتحديد من يفرون من المناطق التي حددها في تحذيراته.
هذا الأمر يتضمن عمليات مراقبة متقدمة، مثل تتبع الهواتف المحمولة للأفراد. يتم استخدام تقنيات متطورة لاختراق الهواتف الذكية، حيث يقوم الاحتلال برصد مواقع الأشخاص، ورصد الرسائل والمكالمات التي يتبادلونها، وقد يصل الأمر إلى مراقبة الصور والفيديوهات الملتقطة عبر كاميرات الهواتف.
الاختراقات الإلكترونية:
تطور جديد في الحروب المعلوماتية!
التكنولوجيا لا تقتصر على مراقبة تحركات السيارات أو الأفراد فقط، بل تتعداها إلى تقنيات أكثر تقدمًا، تشمل اختراق الأجهزة الإلكترونية للمدنيين. ففي عدة حالات، استخدم الاحتلال الطائرات المسيرة للتسلل إلى الأجهزة الإلكترونية داخل المنازل، محاولةً الوصول إلى معلومات حساسة قد تكشف عن مواقع يتم استخدامها من قبل حزب الله أو الأفراد المتتبعين.
في حادثة وقعت في بلدة “مارون الراس” جنوب لبنان، رصدت الطائرات المسيرة “الإسرائيليّة” تحركات مشبوهة داخل أحد المباني، ثم حاولت اختراق كاميرات المراقبة داخل المبنى للحصول على تفاصيل حول الأشخاص المتواجدين. كما تُمكّن هذه التقنيات الجيش “الإسرائيلي” من مراقبة محادثات الناس حول مواقع الهجوم المحتملة، إذ يعمد الاحتلال إلى مراقبة محادثات المواطنين على تطبيقات مثل “واتس آب” أو “تيليغرام” لجمع مزيد من المعلومات حول الوضع في المناطق المستهدفة.
التحديات القانونية والمجتمع الدولي:
“إسرائيل” بين الادعاء والممارسات الفعلية
“إسرائيل” تدعي باستمرار أنها ملتزمة بالقانون الدولي، وأن تحذيراتها هي جزء من سعيها لحماية المدنيين. لكن الواقع في الميدان يكشف ممارسات مغايرة، حيث تستمر الهجمات الجوية على المناطق المحظورة التي لا تزال تشهد نزوحًا جماعيًا من المدنيين، مما يزيد من تدهور الوضع الإنساني في لبنان.
فعلى الرغم من التحذيرات المتكررة، فإن الواقع يظهر أن العديد من المدنيين لقوا حتفهم في الهجمات، مما يشير إلى عدم جدوى التحذيرات في إنقاذ الأرواح.
منظمة العفو الدولية وغيرها من المنظمات الإنسانية أكدت أن “إسرائيل”، بموجب القانون الدولي الإنساني، ملزمة باتخاذ كل الإجراءات الممكنة لحماية المدنيين.
إلا أن التقارير تشير إلى أن العديد من الهجمات التي شنتها “إسرائيل” خلال الحرب الأخيرة كانت غير مبررة واستهدفت مناطق مدنية بشكل متعمد، مما يثير تساؤلات حول أهداف هذه التحذيرات.
حتى أن بعض الضحايا تحدثوا عن تجاربهم المريرة أثناء محاولاتهم مغادرة مناطقهم بناءً على التحذيرات، فقط ليجدوا أنفسهم في مرمى النيران “الإسرائيلية” في أماكن أخرى.
التكنولوجيا والحرب النفسية:
تدمير الروح المعنوية وزعزعة الاستقرار
يبدو أن الحرب النفسية التي تشنها “إسرائيل” ضد الشعب اللبناني تتعدى مجرد نشر الخوف عبر التحذيرات الإعلامية. في الواقع، استخدام التكنولوجيا الحديثة أصبح جزءًا أساسيًا في محاولة “إسرائيل” لتدمير الروح المعنوية لدى الشعب اللبناني. فإضافة إلى الهجمات العسكرية، تستخدم “إسرائيل” هذه الأدوات لتوسيع تأثيرها النفسي على المدنيين.
التحذيرات “الإسرائيلية”، مع ما يصاحبها من ضربات جوية وعمليات مراقبة، تؤدي إلى تدمير المجتمع اللبناني من الداخل. عائلات بأكملها تمزقها القرارات المفاجئة، والضغط النفسي يتزايد يومًا بعد يوم. فالنزوح الجماعي المتكرر يعطل الحياة اليومية، ويؤثر على الروابط الاجتماعية، ويزيد من الانقسام بين السكان، مما يسهم في تأجيج القلق والضياع.
ومع ذلك، أثبتت بيئة المقاومة وسكان المناطق المستهدفة من العدوان “الإسرائيلي” قدرةً هائلة على الصمود في وجه الحرب النفسية التي تشن ضدهم، حيث فشل العدو في تحقيق أهدافه المرجوة من تلك التحذيرات.
مواجهة الحرب النفسية والاعلامية
إن الحرب النفسية التي تستهدف الشعب اللبناني من خلال التحذيرات والتقنيات المتقدمة هي جزء من استراتيجية شاملة تهدف إلى إضعاف الجبهة الداخلية اللبنانية. وبالرغم من تطور هذه التقنيات، يظل الشعب اللبناني قادرًا على الصمود أمام هذه الحرب النفسية.
الوحدة الوطنية، بالإضافة إلى تعزيز الوعي حول هذه التكتيكات “الإسرائيلية”، ستكون الوسيلة الأمثل لمواجهة هذه الحرب الإعلامية والنفسية.
وعلى الرغم من القصف المدمر والتكنولوجيا المتقدمة التي يستخدمها الاحتلال، يبقى التكاتف بين اللبنانيين والعمل الجماعي ضد هذه الاستراتيجيات هو السبيل لإفشال هذه المحاولات الرامية إلى إضعاف الشعب اللبناني نفسيًا ومجتمعيًا.
امل سيف الدين- الديار

Share.
Exit mobile version