الراعي ترأس قداسا على نية كاريتاس: ما اهتزت وحدة لبنان إلا مع إضعاف دور الموارنة وتهميشه
ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس الاحد الخامس عشر من زمن العنصرة في كنيسة الصرح البطريركي في الديمان على نية كاريتاس، عاونه فيه المطران جوزيف النفاع والاب ميشال عبودالكرملي بمشاركة المونسنيور فيكتور كيروز والاب فادي تابت والقيم البطريركي الاب طوني الآغا ورئيس الديوان مرشد كاريتاس الجبة الخوري خليل عرب والاباء هادي ضو، جوزيف صفيروادغار طنسي، وبحضور النائبين طوني فرنجية وويليام طوق والنائب السابق اميل رحمة، نائب رئيس كاريتاس لبنان نيكولا الحجار، منسقة كاريتاس الشمال لوريت ضاهر، المنسق العام لشبيبة كاريتاس بيتر محفوظ، مسؤولة جهاز الاعلام ماغي مخلوف والمستشار الاعلامي لشبيبة كاريتاس جوزيف محفوض، رئيس اقليم كاريتاس الجبة ايليا ايليا واعضاء مكتب الاقليم، فوج كشاف لبنان- قرنة شهوان وحشد من المؤمنين.
بعد الانجيل ألقى عظة بعنوان “مغفورة لها خطاياها الكثيرة لأنها احبت كثيرا ” قال فيها: “إيمان وحبّ وتوبة. ثلاثة مترابطة يعلّمها الربّ يسوع في حادثة الإنجيل. امتدح يسوع إيمان المرأة الخاطئة وحبّها وتوبتها، وبادلها غفران خطاياها بحبّ أكبر. آمنت المرأة بيسوع، وأدركت أنّه قادر على أن يغفر خطاياها ويشفيها، لكي تبدأ حياة جديدة. ولهذا قصدته في بيت سمعان الفريّسي. استعدّت للتوبة، وقصدته بحبّ وثقة”.
أضاف: “يسعدني أن أحيّيكم جميعًا، وأن نحتفل معًا بهذه الليتورجيا الإلهيّة. وأرحّب بنوعٍ خاص برابطة كاريتاس بشخص رئيسها الاب ميشال عبود ونائبه على رأس اقليم كاريتاس-الجبّة المشاركة معنا، رئيسًا وهيئة إداريّة وأعضاء. إنّ رابطة كاريتاس هي جهاز الكنيسة الراعوي الإجتماعيّ في لبنان. وتعمل باسم الكنيسة في خدمة المحبّة. والكنيسة تساندها وتوجّه إليها جميع المساعدات، وكاريتاس توزّعها من خلال أقاليمها ومراكزها على جميع الأراضي اللبنانيّة. أمّا الكنيسة فتتفرّغ لخدمة الكلمة وتوزيع نعمة الأسرار، وتقديس النفوس. إنّنا نصلّي على نيّة كاريتاس والمحسنين وجميع العاملين فيها إدارةً وأعضاء ومتطوّعين كشبيبة كاريتاس ومحسنين من داخل لبنان وخارجه، لكي تعضدها العناية الإلهيّة في مهمّتها الصعبة والكبيرة والمتشعّبة. كما أرحّب بكشّافة لبنان-فوج مار يوسف قرنة شهوان. إنّهم ينتمون إلى مدرسة القدّيس يوسف التي نقّدرها لمستواها العلميّ الرفيع. نتمنّى للكشافة ولطلّابها الخير والنجاح وضمانة مستقبل أفضل”.
وتابع: “لقد قامت تلك المرأة بمبادرة تعبيريّة مزدوجة، غنيّة بالمعاني:
أ- المبادرة الأولى، وقفت باكية عند قدمَي يسوع تبلّلها بالدموع. هي علامة انسحاق القلب والندامة. ندمت عن حياتها الماضية وعن الخطايا التي شوّهتها. بكت على حالها وماضيها، وأسفت وقرّرت تغيير مجرى حياتها. وبكت خجلًا على ما فعلت، وفي قلبها إيمان بأنّ يسوع سيتفهّمها ويغفر لها. الندامة هي هذا الإنسحاق في القلب والأسف على الحالة السيئة وعلى الماضي، وفي طيّات الندامة قرار حاسم بتغيير مجرى الحياة وطريقة عيشها، وإصلاح الحال.
ب- المبادرة الثانية، راحت تنشّف قدميه بشعرها وتقبّلها وتدهنها بالطيب. هي علامة حبّها الكبير ليسوع، وجعلت حبّها له فوق كلّ الأشياء والأشخاص. بفعل الحبّ الصامت والتعبيري في آن، كانت تقرّ بخطاياها وتلتمس المغفرة.
أمّا يسوع فبادرها بغفران خطاياها قائلًا: “مغفورة لك خطاياكِ … إيمانكِ خلّصكِ! إذهبي بسلام!” (لو 7: 49-50).”
وقال: “تساءل الجالسون إلى مائدة سمعان الفريسي في أنفسهم: “من هو هذا الذي يغفر الخطايا أيضًا؟” (لو 7: 49). يسوع الكاهن الأزليّ، الإله الذي صار إنسانًا، له سلطان ليغفر الخطايا. لكن الحاضرين لم يكونوا يعرفون يسوع إله متجسّد. صحيح أنّ الله وحده يغفر الخطايا، كما أقرّ مرّة علماء الشريعة، عندما قال يسوع لمخلّع كفرناحوم “مغفورة لك خطاياك” (مر 2: 5-7). هذا الإقرار مهمّ بحدّ ذاته وأساسيّ، لأنّه أوّلًا إقرار بالخطيئة، التي فقد معناها كثيرٌ من الناس، حتى أنّهم لا يقرّون بها، على الرغم من الشرور والاعتداءات على الله والإنسان التي يقترفونها، وعلى الرغم من مخالفة وصايا الله المتمادية والمتكرّرة. والسبب هو أنّهم فقدوا معنى الله، لدرجة إقصائه عن حياتهم، وعدم الاعتراف بأنّه وضع للبشر، كلّ البشر، وصايا ورسومًا لاتّباعها في حياتهم. و بما أنّ يسوع هو إبن الله، يقول عن نفسه: “إبن الإنسان له السلطان ليغفر الخطايا على الأرض” (مر 2: 10). وهكذا مارس سلطانه الإلهيّ بقوله للمخلّع: “مغفورة لكَ خطاياكِ”(مر 2: 5)، وللمرأة الخاطئة: “مغفورة لكِ خطاياكِ” (لو 7: 48). وبقوّة سلطانه الإلهيّ، أعطى الربّ يسوع سلطان الحلّ من الخطايا للبشر الذين أقامهم في الكهنوت لكي يمارسوه باسمه. فليلة قيامته من بين الأموات، وقد أجرى بموته على الصليب فداء الجنس البشريّ، وبثّ الحياة الجديدة بقيامته، أعطى رسله كهنة العهد الجديد هذا السلطان باسمه: “خذوا الروح القدس: من غفرتم له خطاياه تُغفر له، ومن منعتم عنه الغفران يُمنع عنه” (يو 20: 22-23).”
وقال: “إنّ أعظم ما ترك لنا الربّ يسوع هو المصالحة. ففي بيت سمعان الفرّيسيّ تمّت مصالحة المرأة مع ذاتها ومع الله بمغفرة خطاياها، ثمّ مع الجماعة الحاضرة في البيت. فكانت نتيجة المصالحة السلام: “إيمانك خلّصك، فاذهبي بسلام” (لو 7: 50). المصالحة هي حاجة مجتمعنا اللبنانيّ، فمعها تنتهي حرب المصالح الشخصيّة التي هي أخطر من الحرب المسلّحة. المصالحة تبدأ مع الذات بترميم العلاقة مع الله، وبتغيير المسلك والموقف والنظرة؛ وترتقي إلى مستوى المصالحة الإجتماعيّة بحلّ الخلافات والنزاعات وسوء التفاهم. ثمّ تنتقل إلى المصالحة السياسيّة بإعادة بناء دولة الوحدة الوطنيّة ودولة الحقّ والقانون الصالحة والعادلة. وتبلغ كمالها بالمصالحة الوطنيّة بانتخاب رئيس للجمهوريّة يسهر على الوحدة الوطنيّة، ويحمي الدستور والميثاق، ويحصّن العيش معًا ومشاركة الجميع العادلة والمنصفة والمتوازنة في إدارة شؤون البلاد العامّة”.
أضاف: “فليُسمح لنا الكلام مارونيًا ولو لمرّة، عن إقصاء الموارنة عن إدارة الدولة، بدءًا من عدم انتخاب رئيس للجمهوريّة منذ سنتين حتى الآن، في أخطر مرحلة يمرّ فيها لبنان. فيجب التذكير بالمرحلة الذهبيّة التي كان زمام الحكم فيها بيدهم. فلنتذكّر المرحلة الذهبيّة في العلاقات بين الطوائف المسيحيّة والإسلاميّة، وبين لبنان والعالم العربي، وبين لبنان والعالم الإسلامي. فلنتذكّر جمال الصيغة اللبنانيّة بمفهومها الميثاقيّ سماحةً في التطبيق وبساطةً في التعايش، وحريّةً في الممارسة العامّة. فلنتذكّر كيف كان رؤساء حكومة لبنان يخاطبون ملوك ورؤساء العرب من الندّ إلى الندّ. كانوا أصدقاءهم ومحاوريهم وجلساءهم. كانوا رسلَ لبنان إلى العالم العربيّ، أمثال رياض وسامي وتقيّ الدين الصلح، وصائب سلام وعبدالله اليافي ورشيد كرامي وشفيق الوزّان. وكيف كان رؤساء المجلس النيانيّ مثلًا صبري حماده وعادل عسيران وكامل الأسعد وحسين الحسيني. فلنتذكّر حين أحاط، إبتداءً من أواخر القرن السادس عشر، الأمراء المعنيّون فالشهابيّون أنفسهم، ولا سيما الأمير فخر الدين المعنيّ الثاني (1572-1635)، بالنخب المارونيّة المدنيّة والكنسيّة. لقد أمّن لهم الموارنة الفكر السياسيّ، والتنظيم الإداريّ والاقتصادي، والقوّة العسكريّة، والعلاقات الديبلوماسيّة مع أوروبا، ما شكّل حماية لإمارة الجبل في وجه السلطنة العثمانيّة. ويكشف مسلسل الأحداث أنّ ما اهتزّت وحدة لبنان إلّا مع إضعاف دور الموارنة وتهميشه. وتقتضي الموضوعيّة التاريخيّة الإعتراف، بالمقابل، بأنّ قيادات وتيّارات وأحزابًا مارونيّة تتحمّل جزءًا من تراجع المسيحيّين” .
وختم: “فلنصلِّ، أيّها الإخوة والأخوات الأحبّاء، من أجل المصالحة الروحيّة والإجتماعيّة والسياسيّة والوطنيّة”.
بعد القداس ألقى الاب عبود كلمة شكر فيها غبطة البطريرك على رعايته الدائمة لعمل كاريتاس، وشكر باسم مجلس الادارة ممثلة به وبنائب الرئيس الدكتور الحجار الاقليم على الجهود والخدمات التي يوفرها في سبيل الوقوف الى جانب ابناء المنطقة.
ثم استقبل الراعي النائبين فرنجية وطوق والنائب السابق رحمة والاب عبود بحضور المطران النفاع والمسؤول الاعلامي وليد غياض، عرض معهم شؤونا وطنية والاوضاع الراهنة.
وقال فرنجية بعد اللقاء: “خلال لقائنا وصاحب الغبطة لمسنا من عظته حرصه على الوحدة الوطنية في هذه الظروف التي يمر بها لبنان المرحلة التي تحتاج الى التفافنا حول بعضنا البعض الى الحوار بين بعضنا والى التمسك وجمع كل قوانا كلبنانيين للحفاظ على هذا البلد وعلى امنه واستقراره وللوقوف الى جانب قضايا الحق والى جانب الانسان المظلوم والضعيف، ولكن بنفس الوقت هناك خشية كبيرة على البلد من الحرب ومن الدمار ولكن هذا لا يمنع الانسان من الوقوف الى جانب بلده وناسه. ورغم الخوف نأمل ان تمر هذه المرحلة بأقل ضرر ممكن ليعود لبنان رغم كل الصعاب لبنان الذي نعرفه، لبنان الذي نحبه، لبنان المتمسك اهله به وبأرضه، وقد كان لقاؤنا سريعا مع غبطته بسبب كثافة الزوار المنتظرين في الصالون للقائه”.
وختم: “كررنا خلال الاجتماع كلامه في العظة اننا جميعا كموارنة في هذا البلد يجب علينا اعادة النظر في تاريخنا لعدم تكرار نفس الاخطاء وانا اعتقد وهذا ما نقلناه الى غبطته ان وحدة المسيحيين والحوار فيما بينهم وبين كل اللبنانيين هو ضرورة لهذه المرحلة ومن يعرقل الحوار لم نفهم عليه”.
ثم استقبل الراعي في الصالون الكبير وفد كاريتاس والمشاركين في الذبيحة الالهية. والقى رئيس اقليم كاريتاس الجبة ايليا ايليا كلمة حيا فيها “مواقف البطريرك الوطنية الحكيمة”، طالبا بركته الابوية، مؤكدا “التعلق بمقام البطريرك الروحي والوطني”. وقال: “ان روحَ المحبةِ التي نلقاها منكُم تعزِز فينا ارادةَ التطوعِ والالتزامِ بالخدمةِ الراعوية الاجتماعية، التي تعكسُ حضورَ كنيستِنا الخادمة والأُمْ والمُعلّمة. وقد تكونُ محبّتُكم، يا صاحبَ الغبطةِ، بعد الايمانِ باللهِ وبالرسالةِ التي شاءَها لنا في لبنانَ والمنطقة، قد تكونُ عنصرَ القوّة الوحيدْ الفاعل في مواجهةِ تحدياتِنا وحاجاتِنا الانسانيةِ المتزايدة. وماذا بقي لنا في لبنان، غيرَ قوةِ المحبّة لنجابِهَ الصعوباتِ التي تحيطُنا وتهدِدُنا؟ فالإنهيارُ الاقتصادي نتيجةَ السياساتِ الخاطئةِ التي أُعتُمِدتْ منذ نهايةِ الحرب سنة 1990، افرَغَ قدراتِ المجتمعِ الاهلي المحلي، وأصابَ مؤسساتِ القطاعِ الرسمي الحكومي بالشلل التام فتعَطلَ دورُ هذا القطاع، الذي تقعُ عليه مسؤوليةُ العنايةِ والرعايةِ الاجتماعيتين ، وخدمةُ الطبقاتِ المهمّشَةِ الفقيرة. وهذا ما جعلَ الانظارَ تتركزُ أكثرَ فأكثرْ على الكنيسةِ، بخاصةٍ على مؤسساتِ الخدماتِ فيها، من مدرسةٍ ومأوى ومستشفى وسواها من مؤسساتِ الرعايةِ الانسانية”.
أضاف: “إن كاريتاس تضطلعُ بدورين متلازمين على مستويي التركيز المذكورين، تركيزُ الرجاءِ وتركيزُ العداءِ فعلى المستوى الاول تُجيبُ بخدماتِها المتعددة، على انتظاراتِ الرجاءْ. وعلى المستوى الثاني تجيبُ بالاعمالِ الملموسةِ فتُبرِزُ حقيقَةَ دورِ الكنيسةِ وحجمَ امكانياتها، وهي عاجزةٌ في مُطلقِ الأحوال، عن الحلول محلَّ الدولة ولا تريدُ هذا الحلول. إننا فيما نجدد شُكْرَنا لكم يا صاحبَ الغبطة والنيافة لإحتِضانِكم الأبوي لكاريتاس لبنان، ولإقليم كاريتاس الجبّة العامل في أبرشيتِكُم البطريركية. نؤكد الالتزامَ بمسيرةِ الخدمةِ متكلين على الله، وعلى محبتِكم، وعلى تضامُنِ شريحةٍ واسعةٍ من المؤمنين الأوفياء لتعليم كنيستِنا الداعي الى تقاسُم خيراتِ الأرض”.
وختم شاكرا المطران نفاع والخوري عرب والاب الآغا والاب عبود على “حرصهم الدائم وتفهمهم ودعمهم”. ووجه “تحية تقدير لأعضاء المكتب واعضاء مركز الرعاية والشبيبة على ادوارهم المشجعة والفاعلة” .
ورد البطريرك بكلمة شبه فيها كاريتاس بـ”الشمامسة السبع الذين يعملون لخدمة الكنيسة وخدمة كلمة الرب في عمل المحبة”. ونوه “بالخدمات الانسانية التي تقدمها كاريتاس والدور الفاعل في مساعدة المجتمع والفقراء”.