تقطير الحرب والسّلم في معارك حرب الأعصاب
يرافق شراء الوقت لإسعاف التفاوض على وقف النار في غزة وإحيائه استخدام كل من إسرائيل وإيران وأذرعها الفسحة الزمنية المتاحة لقراءة الخطة العسكرية للآخر وتوطيد الاستعدادات للسيناريوهات الواردة. إنها مرحلة حرق الأعصاب في مشهد المواجهة الإقليمية التي تقلق العالم وما زالت تتأرجح على شفير الهاوية بين مكابرة المزايدات والخوف من عواقبها.
تقطير الحلول والمعارك حل الآن مكان الصفقة الكبرى والحرب الموسعة، كلاهما بات وارداً ومستبعداً في آن واحد. إدارة الرئيس جو بايدن تستثمر في الخيارين، اذ ما زالت تضغط من أجل وقف النار والمعالجة الانتقالية والتدريجية لحرب غزة يرافقها العمل على تحقيق حلم الصفقة الكبرى ورسم ملامح جديدة للشرق الأوسط. ومن جهة أخرى، تسير إدارة بايدن على سكة الردع ببوارجها وعضلاتها العسكرية في المنطقة، وهي تشدد على الدخول طرفاً مع حليفتها إسرائيل إذا ما اندلعت حرب إقليمية بين إسرائيل وإيران وأذرعها، لا سيّما “حزب الله” في لبنان.
يطيب للبعض أن يعتبر أن المفارقة في المواقف الأميركية بين وسيط وشريك هي دليل إلى الازدواجية، لأن إدارة بايدن تصعّد لفظياً في انتقاداتها لسياسة رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو فيما تقدم لإسرائيل الدعم العسكري غير المحدود تقريباً لدعم حربها على “حماس” في غزة. لغتها إنسانية في الأقوال وعسكرية في الأفعال. هذا صحيح، ولكن.
إن من يقرأ في السياسات الدولية يفهم معنى كلمة التحالف بين الدول. وفي حال العلاقة الأميركية – الإسرائيلية، إنه تحالف استراتيجي نوعي. ويخطئ من يفترض أن أي رئيس أميركي سيتخلى عن إسرائيل إذا خاضت حرباً إقليمية، بغض النظر عن البادئ بها، بخاصة أننا في الأشهر الأخيرة من الانتخابات الرئاسية الأميركية. هذا ليس جديداً، هذا أساس لا خلاف عليه بين الجمهوريين والديموقراطيين.
الرأي العام الأميركي لا يريد تورط الولايات المتحدة في أيّ حرب، لا سيّما مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية. جزء منه يكره محاولات إسرائيل توريط أميركا في حرب مع إيران، لكن هذا لن يصل إلى درجة تفتيت العلاقات الأميركية – الإسرائيلية. التحوّل في عاطفة بعض الأميركيين نحو الفلسطينيين دليل إلى القرف من دموية الحرب الإسرائيلية على المدنيين الفلسطينيين. لكن هذا لا يعني أبداً التعاطف مع “حماس” وقادتها أو مع إيران ومحور المقاومة الذي تقوده. ثم إن العاطفة لن تتحول إلى استراتيجية أو أن التقدميين في أميركا سيمزقون العلاقة النوعية الدائمة مع إسرائيل.
بيت القصيد هو في ما يحدث حالياً بين قادة إيران وفريق بايدن في البيت الأبيض. هنا يكمن احتمال الانتقال إلى عتبة الصفقة الكبرى للشرق الأوسط التي يعتقد الكثيرون أنها تعني التطبيع بين الدول العربية الخليجية والسعودية تحديداً، وإسرائيل. بالطبع هذا ما تعنيه في جزء مهم جداً منها. لكن الجمهورية الإسلامية الإيرانية ليست جزءاً مستبعداً عنها بل هي جزء صامت منها.
المسؤولون الأميركيون يحذرون إيران من عواقب “جسيمة” إذا قررت مهاجمة إسرائيل. هذه العواقب سيكون لها شق نووي لأن إسرائيل ستجر أميركا إلى استهداف المنشآت النووية الإيرانية التي تشكّل لطهران أولوية وطنية وهي على عتبة الوصول إلى امتلاك القنبلة الذرية. الحديث الأميركي – الإيراني يدور وراء الكواليس، عبر وسطاء وفي الغرف المغلقة التي يتسلل إليها أميركيون وإيرانيون لإجراء المقايضات الثنائية والإقليمية. وهذا هو الفارق الأساسي بين سياسة أوباما – بايدن وسياسة دونالد ترامب: إنها العلاقة مع إيران.
أخطاء عديدة ارتكبها ويرتكبها فريق بايدن بقيادة وزير الخارجية أنطوني بلينكن، من ضمنها الإقرار المطلق والاعتراف العلني بدور إيران الفارسية المحوري في مصير الفلسطينيين العرب. الخضوع للشروط الإيرانية ميّز إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما وكذلك إدارة بايدن، لا سيّما لجهة “حق” إيران باستخدام الميليشيات والقوى غير النظامية في دول عربية سيادية لتحقيق المصالح الإيرانية الفارسية الوطنية. بين أخطر أخطاء فريق أوباما – بايدن هو إعطاء طهران اليد العليا في تقرير مصير فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن. هذا ذنب استراتيجي لا يُغتفر.
قد يقال إن نجاح إدارة بايدن في احتواء حرب غزة كي لا تتحوّل إلى حرب إقليمية نجاح يستحق التقدير إنما هو نتيجة مباشرة للسياسة الأميركية نحو إيران، بل للسياسة التي اعتمدها أوباما أساساً نحو إيران وسار بها بايدن إلى الأمام. وهذا هو الثمن.
صحيح أن فريق بايدن ينسّق ويعمل مع دول عربية عدة – ومن خلالها – لإيجاد مخرج من حرب إسرائيل على غزة والوصول إلى وقف النار، من بينها مصر وقطر وعمان والأردن والسعودية. لكن الحديث الأعمق هو مع طهران التي أعطاها فريق بايدن زهواً وهو في خضمّ التفاوض معها على نوعية أدوارها الإقليمية وآفاقها و”شرعيتها”، بما فيها القضم الفاضح لسيادة الدول العربية، ولبنان في الطليعة.
لذلك يشعر الأمين العام لـ”حزب الله” حسن نصر الله بالثقة العارمة حتى وهو يرتجف خوفاً من حرب مباشرة مع إسرائيل يضحي بها بلبنان من أجل مصلحة إيران العليا. إنه يسير على حبل مشدود بين إملاءات الحرس الثوري الإيراني والانقسام الداخلي في إيران، وبين اختطاف لبنان وشعبه وسيادته والمغامرة بمصيره ومصير حزبه إذا ما اندلعت حرب موسّعة. أبرز ما قاله في أحد خطاباته هو إيمانه بأن حرب الأعصاب ضرورية حتى ولو كان معنى ذلك استهلاك أعصاب الشعب اللبناني الذي لا يريد هذه الحرب أساساً فيما يجره إليها “حزب الله” بالقوة.
لم تقدّم أيّ دولة عربية أخرى نفسها جبهة مفتوحة لحرب مع إسرائيل مساندةً للفلسطينيين في غزة. حتى الضفة الغربية لم تبادر قيادتها إلى فتح جبهة مع إسرائيل من هناك. مصر المجاورة لإسرائيل اختارت الحياد. الأردن المجاور والمهدد من إسرائيل اختار أن يكون حيادياً. سوريا لم تفتح الجبهة مع إسرائيل من أجل غزة أو “حماس”. فقط السيد حسن نصر الله قرر إقحام لبنان في جبهة حرب مباشرة مع إسرائيل داعياً إليها كل الميليشيات الفلسطينية والجهادية من فصائل فلسطينية إلى الدواعش.
يقول الخبراء المقربون من الأجهزة الاستخبارية في مختلف الدول إن التطورات المقبلة ستحمل في طياتها ضربات “جسيمة” و”هائلة” Massive لكن المعركة ستكون قصيرة ولن تتحول إلى حرب كبرى بين إيران وإسرائيل. هناك نوع من إخراج مسبق لمسرحية حرب ذات ضوابط وحدود وأطر زمنية. وهناك نوع من إشراف أميركي على سيناريو معارك الانتقام الضروري لكل من إيران ومحاورها ولإسرائيل.
الثأر هو أحد العناوين المقبولة في استراتيجية الاحتواء. لعل هذه هي الواقعية السياسية، لكن الخطأ الهائل هو في تكتيك التقطير الذي تبناه فريق بايدن في الأساس عند بذله جهود التهدئة. هكذا وقع رهن المقايضات التي كان يجب ألّا تكون مقبولة. وها هو الآن يخضع لأمر واقع جديد وهو التفاوض بالمباشر وغير المباشر – إذا جاز التعبير – مع القائد السياسي الجديد لحركة “حماس” يحيى السنوار، الذي تتهمه الولايات المتحدة وإسرائيل بأنه العقل المدبّر لأحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر) ويصنفانه في خانة “الإرهاب”.
بنيامين نتنياهو يتصوّر نفسه المرشح للانتصار ما دام وزير الدفاع الأميركي يؤكد علناً أن الولايات المتحدة ستقف بجانب إسرائيل إذا فتحت إيران حرباً مباشرة ضدها. أما الحرب على لبنان، فلها قواعدها المختلفة. صحيح أن حسن نصر الله عدو مباشر لنتنياهو على الحدود اللبنانية – الإسرائيلية وأن الكلفة ستكون باهظة على الاثنين كما على لبنان وإسرائيل، لكن الصحيح أيضاً هو أن فريق بايدن وافق كأمر واقع على وضع مصير لبنان في أيدي إيران لأنها سيدة حسن نصر الله.
أين نحن؟ إننا الآن نتأرجح بين التدمير للبنان أولاً في حال اتخاذ إيران وإسرائيل قرار الحرب، وبين صفقة تتمنى واشنطن التوصّل إليها في سيناريو الثأر والانتقام من الطرفين تنتهي بتفاهمات تضع حرب غزة على سكة وقف النار، ثم الصفقة الكبرى.
حكام طهران جاهزون للتعامل مع فريق بايدن لأنهم لا يريدون عودة ترامب إلى البيت الأبيض وخسارة المليارات التي تسمح إدارة بايدن لإيران بأن تتسلمها، إما عبر الإفراج عن أصول لها في دول ثالثة أو من خلال مبيعات النفط. عودة ترامب إلى البيت الأبيض تعني رجوع إيران إلى الإفلاس بسبب إعادة فرض العقوبات الجديّة عليها.
الخطأ الكبير يبقى في اعتماد فريق بايدن تكتيك التقطير في المفاوضات وفي المعارك المسموح بها على السواء. كل شيء انتقالي ومرحلي في حسابات هذا الفريق الذي ما زال يحلم بتلك الصفقة الكبرى بعد معارك حرق الأعصاب.
الكاتب: راغدة درغام – “النهار العربي”