«حتى الصورة اللي كنا نفكر إنها حتكون لذكرى حلوة، تحولت لوجع كبير، قديش ملعونة هالحرب». هكذا وصف مصوّر الأطفال الفلسطيني يحيى برزق، وجعه تجاه عمله الذي أتقنه في غزة، والذي أبدع فيه، وقد كان سبّاقاً في تخصصه، في مجال تصوير الأطفال الحديثي الولادة. كان يحيى يشارك متابعيه على مواقع التواصل الاجتماعي، نتائج عمله من صور ومقاطع فيديو، لكن الحرب حوّلت صفحاته، من جنة الأطفال إلى جحيمهم، فقد تحولت غالبية الصور التي التقطها بعدسته لبراءة الأطفال، إلى صور مع إشارة سوداء على زاوية الصورة، لتدلل على أن الطفل هذا استشهد، وفي أغلب الأحيان، يكون الطفل قد استشهد مع عائلته بأكلمها.
«أطفال الصور» أطفاله
«حياتي قبل الحرب كانت من أروع ما يكون، وفجأة تحول كل شيء إلى كابوس»، هكذا قارن برزق، كيف تحولت حياته. خسر في الحرب بيته ومكان عمله، الذي كان يعتبره ملاذاً آمناً، ففي الاستديو الخاص به كان يستقبل الأطفال الرُّضَّع، ليلتقط لهم صوراً جميلة، يخلّدها التاريخ لهم. لكن، ورغم البراءة التي يتعامل معها يحيى، شنّت همجية الاحتلال، معزّزة بالحديد والنار والبارود، وحشيتها على براءة الأطفال، وعلى صورهم، وعلى حاضرهم ومستقبلهم، فأنهت كل شيء، حين حوّلت أجسادهم الطرية إلى أشلاء.
في هذا الاستديو، وبحسب تعبيره، كانت تنشأ علاقة مع أهالي الأطفال، ولا سيما أن بعض جلسات التصوير كانت تمتد لخمس ساعات. هذه اللحظات الجميلة مع الأطفال وعائلاتهم، ساهمت في «الكابوس»، فقد عرف برزق في يوم من الأيام، باستشهاد أحد الأطفال الذين صوّرهم، «استشهد هو وأمه وأبوه، وكل عائلته. صعقت حين عرفت باستشهاده، كنت قد صوّرته قبل الحرب بأقل من شهر» ويوضح برزق أكثر علاقته بالطفل: «أنا لم أصوّره فقط، أنا حملته وحضنته ونوّمته. أنا لمسته من خديه حتى أجعله يضحك» ويتساءل متحسّراً ومتألماً «لماذا ينزل عليه صاروخ بالأطنان ويمحوه من الوجود؟». يكمل برزق حديثه لـ«الأخبار» قائلاً: «في يوم آخر، وصلني خبر استشهاد طفلة، كنت قد صوّرتها، وبعدها بأيام، وصلني خبر عن أطفال استشهدوا. بت أخاف فتح الإنترنت، كي لا أعرف أخباراً جديدة».
علاقة يحيى مع الأطفال، لم تكن تقتصر عليه، فقد امتدت إلى زوجته التي كانت تتابع عمل زوجها أيضاً، «مع تتالي أخبار استشهاد الأطفال، انهارت زوجتي وهي تشاهد صور الأطفال، وصارت تبكي، وتقول من حق الطفل أن يكبر ويفرح بصوره».
قصف… نزوح… ضياع
شنّ الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، يوم 7 تشرين الأول 2023. وفي هذا اليوم كما يوضح يحيى، لاحظ أن الأمور اشتدت، «ذهبت إلى الاستديو، وأخذت الكمبيوتر، والكاميرا، وأرشيف الصور، خبأتها، ووضعتها مع الأشياء المهمة التي يجب أن تكون معنا في حال خرجنا من البيت». ظل محمد في مكانه حتى أوائل شهر تشرين الثاني من العام الماضي، ومع اقتراب قوات الاحتلال من مكان سكنه، واشتداد القصف، قرّر المغادرة: «قبل خروجنا من البيت، اجتمعت مع العائلة، ومن ضمنها نسائبي، فقد كان نازحون لدينا، واتفقنا على خطة للخروج، فبعد الخروج من البناء، كيف نتوجه، واتفقنا على التوجه من أحد الشوارع، ظناً منا أنه سيكون أكثر أمناً من طرقات أخرى. خرجنا وبدأنا الجري، وعند أحد المفترقات، واجهتنا دبابة، أطلقت قذائف الدخان بشكل كثيف، وفي هذه اللحظة كأننا أُصبنا بالشلل. فشلت خطتنا، ولم نعد نعرف ماذا علينا أن نفعل، ومن كثافة الدخان، لم يعد بعضُنا يرى بعضاً، وصرنا نركض عشوائياً. في هذه الأثناء، كان ابني محمد (8 سنوات) يمسك يد أمه، وأنا كنت أحمل حقائب ثياب، وعلي (4 سنوات) كان مع خالته. ونحن في وسط الدخان، وإطلاق النار، انهارت زوجتي نهروان، فرمت بنفسها على الأرض، وكانت تعتقد في تلك اللحظة أن قذيفة الدخان ستنفجر، فاستعدّت للموت. أمسكت يدها، وطلبت منها أن تقف، لنخرج من المكان حتى لا نموت. لحظتها، ازداد إطلاق النار، فركضنا مسرعين وراء أخت زوجتي وابني علي، فقد شاهدناهما يدخلان أحد البيوت، فدخلنا معهما، وأغلق صاحب البيت الباب خلفنا».
في هذه الأثناء انتبه يحيى وزوجته إلى أن ابنهما محمد ليس معهما، فمرت ساعات على هذا الحال. وقد تمكن الجميع من الخروج من المنزل الذي آواهم. أما محمد، فعرفوا لاحقاً أن خاله وجده «كان محمد يركض باتجاه الدبابة، فصادفه خاله، فأمسكه وحمله، وهرب به إلى أناس آخرين» ويذكر يحيى ما حلّ بابنه وخاله لاحقاً، «ظلا في المنزل لأكثر من ساعتين، ولاحقاً اضطرا للمغادرة، والمرور من أمام الدبابة وهما يرفعان راية بيضاء، حتى تمكنا من الخروج من المنطقة بسلام» ويوضح أن «المجموعة الثانية التي خرجت بعدهم، كان بينها سيدة في مقدمة المجموعة، فتعرّضت للقنص».
حياة النزوح
«لم أحتمل حياة النزوح» هكذا يقول يحيى، ويضيف: «أتت عليّ أيام خلال هذه الحرب، لم أكن في حال جيد، كنت مدمّراً، حتى إنّي كنت أنام وأشعر بأنّي لن أصحو مجدداً». ويوضح يحيى أنه لم يحتمل مشاهدة أطفاله والأطفال الآخرين، وهم يبكون من الخوف، «لم أحتمل مشهد الأولاد وهم يرفعون أيديهم، وهم يمرون من أمام الدبابة في طريق النزوح من الممر الآمن».
تمكّن يحيى من تقوية نفسه، وتمكّن من تخطي هذه المرحلة «أحاول فقط أن أعطي نفسي أملاً بالأيام المقبلة، وبإذن الله، الفرج قريب». يصف حياة النزوح باستعادة بعض الذكريات: «صحيح أنا عندي استديو تصوير خاص، لكنني كنت مرتبطاً بعقود عمل أخرى. كان يومي العملي يبدأ من الـ 8 صباحاً، وينتهي عند الـ 8 مساء. كنت معتاداً على حياة كلها عمل. أما الآن فحياتي صارت عادية، أبدأ صباحي بمحاولة تأمين مياه كافية لليوم، وتأمين وجبات الطعام. والحمد لله، أعتبر أن وضعي أفضل من كثير من النازحين، ولا سيما، أنّي انتقلت من الخيام إلى العيش في محل تجاري، يعني أنا أعيش اليوم، في مكان كان سابقاً ميني ماركت، ومع إغلاق المعابر بعد الحرب، أفلس صاحب المحل، فأغلقه، وأنا أسكنه الآن».
أطفال الحرب
«الأطفال الذين التقطنا لهم صوراً جميلة، أصبحنا نشاهد صورهم بالأكفان، وفي الأغلب لم يبق في غزة أطفال حتى نصوّرهم»، هذا لسان حال برزق الذي سُلب منه شغفه في التصوير. ومع ذلك لم يكن في حسبانه أبداً أن تنتقل عدسته المختصّة بتصوير الأطفال بأبهى صورهم، إلى تصوير معاناة الأطفال ذاتهم خلال الحرب. فعن طريق الصدفة، وخلال تجوّله على الطريق، وجد فتاة صغيرة تحاول أن تجعل أختها الرضيعة تنام، لكن عين يحيى الفوتوغرافية لم ترَ المشهد، مجرد أخت تحاول أن تجعل أختها الصغرى تنام، إنما شعر أنه باستطاعته توثيق هذه اللحظة الإنسانية في صورة تحمل تفاصيل كثيرة، أبرزها تعرّض أطفال غزة لظروف قاسية جداً جعلتهم يعيشون حياة أكبر من أعمارهم.
هذه الصور انتشرت بشكل كبير على مواقع التواصل الاجتماعي، ما دفع العديد من أهالي غزة الذين أرادوا أن يقوموا بتصوير أطفالهم إلى التواصل مع يحيى، ليعود الشغف إليه من جديد، ويعدهم باستقبال جلسات تصوير المواليد في الحرب!