مِن وحدة ساحات المُمانعة إلى وحدة ساحات المعارضة

صحيح انّ المشروع الإيراني لم ينجح في إحكام قبضته على اليمن والعراق وسوريا ولبنان والورقة الفلسطينية، ولكنه نجح في تحويل هذه الدول إلى ساحاتٍ لمشروعه، والسؤال الأساس يكمن في سُبل المواجهة.

لقد وصلت الشعوب الفلسطينية واللبنانية والسورية والعراقية واليمنية إلى قناعة باستحالة ان تنعم باستقرار بسبب المشروع الإيراني الذي يمنعها من إرساء الدولة الوطنية، أي الدولة النهائية في سيادتها والمحكومة من داخلها وفقاً للدستور، ولا يكفي ان تكون هذه الشعوب قد نجحت في منع المشروع الإيراني من الإطباق على قرارها، لأنّ عامل الوقت يعمل لمصلحة هذا المشروع، فيما هي تعيش وسط الفوضى والفلتان وعدم الاستقرار، إنما يجب ألا تقتصر مواجهتها على الدفاع عن نفسها وقيَمها ورؤيتها، بل الانتقال من الدفاع إلى الهجوم دفاعاً عن حقها في العيش وسط دول طبيعية كالدول الحديثة في هذا العالم التي لا أولوية لها إلا أولوية أوطانها ومصلحة شعوبها.

وقد أثبتت الأحداث حتى الآن ثلاث وقائع أساسية:

الواقعة الأولى ان الولايات المتحدة لا تعتبر نفسها معنية بترسيم حدود الدور الإيراني بألّا يكون خارج الجغرافيا الإيرانية، وذلك إمّا لاعتبارات مصلحية ترى فيها واشنطن بأنّ التوازن بين السنة والشيعة واستطراداً بين السعودية وإيران يخدم استراتيجيتها، وإمّا لكونها غير مضطرة لخوض حرب لها أثمانها طالما ان إيران لا تهدِّد مصالحها، وقد أظهرت الأحداث التي تلت «طوفان الأقصى» انّ الولايات المتحدة عملت على تحييد إيران على رغم معرفتها انّ الأذرع الإيرانية لا تتحرّك في شأنٍ إقليمي من دون إمرة إيرانية، فلا الحوثي يجرؤ على تهديد الملاحة الدولية لولا الضوء الأخضر الإيراني، وكذلك الحشد الشعبي و«حزب الله».

وما تقدّم يعني انه لا يمكن الرهان وحتى إشعار آخر على ضربة أميركية لإسقاط النظام الإيراني على غرار إسقاطها للنظام العراقي، ولا على ضربة تُنهي الأذرع الإيرانية، ولا على تلويحها باستخدام القوة في حال لم تُقلع طهران عن دورها المزعزع لاستقرار دول المنطقة.

الواقعة الثانية انّ الدول العربية غير قادرة على مواجهة إيران ولا على وضع حد لأذرعها في بعض الدول العربية، وكانت تعوِّل على واشنطن بأن تتحمّل مسؤولياتها انطلاقاً من العلاقة التاريخية التحالفية، إلا انها لم تتحمّل هذه المسؤولية للأسباب المُشار إليها في الواقعة الأولى. ولكن بعد ان لمست طهران حجم العزلة الخارجية والنقمة الداخلية سَعت إلى التقارب مع المملكة العربية السعودية ونقل العلاقة الثنائية من السخونة إلى التبريد، وعلى رغم تشديد المملكة على رفض تدخُّل إيران في شؤون الدول العربية ورفضها إنشاء ميليشيات تقوِّض السيادة، لم يتبدّل أي شيء في السلوك الإيراني التمَدّدي بذريعة انّ القوات غير النظامية التي تدور في فلكها في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين تشكل جزءاً لا يتجزأ من شعوب هذه الدول ولها حساباتها واعتباراتها السياسية.

الواقعة الثالثة انّ إيران لم تتمكّن بعد من إلحاق الدول التي أنشأت فيها ميليشيات بمشروعها، ولكنها حَوّلت هذه الدول إلى ساحات وربطتها ببعضها البعض تحت عنوان وحدة الساحات، فلا طهران قادرة بعد على الإطباق عليها بشكل كامل، ولا القوى الوطنية قادرة على استعادة الدولة الوطنية القائمة على سلاح واحد ومبدأ الدولة.

والخطورة في هذه المواجهة انّ المكونات الوطنية في لبنان وسوريا والعراق واليمن لا تلقى الدعم العملي الذي تتلقّاه المكونات الإيرانية الإقليمية، وهذا الدعم يسمح لها بمزيد من النفوذ والقوة والتمَدّد والسيطرة، وهي تَتكئ على عامل الوقت الذي يحوِّلها بالحد الأدنى إلى قوة أمر واقع لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى ما قبل وجودها، وتسيطر بالحد الأقصى على قرار هذه الدول وتُلحقها بإيران.

وفي هذا السياق لا بدّ من بعض التساؤلات المشروعة: هل يمكن بهذه السهولة إعادة الحوثي إلى مشروع الدولة الوطنية في اليمن على قاعدة دستور وسلاح واحد وأولويات يمنية؟ وهل يمكن نزع سلاح الحشد الشعبي بعدما تمّت قَوننته وأصبح أقوى من الجيش العراقي؟ وأيّ دولة يمكن قيامها في ظل سلاح خارجها؟ وهل «حزب الله» سيبادر إلى تسليم سلاحه أم سيتمسّك به ويسعى إلى قَوننته باستنساخه النموذج العراقي؟ وهل سيقبل الحزب بالتخلّي عن سلاحه تنفيذاً لاتفاق الطائف والقرار 1559؟ وهل مشروع الحزب هو التخلّي عن سلاحه والانخراط في الدولة، أم المزيد من التسلّح والسيطرة على الدولة بشكل كامل؟ وإذا سلّمنا مثلاً انّ إسرائيل هي الدافع وراء تسلّح «حزب الله»، فما الدافع وراء تسلّح الحوثي والحشد الشعبي، وبالتالي التسلّح لا علاقة له بإسرائيل ولا غيرها إنما جزء من مشروع ديني توسعي؟

ويفترض ان تكون الإجابات عمّا تقدّم من تساؤلات واضحة وموحدة ولا تحتمل التأويل ومفادها انّ المكونات التي أنشأتها إيران وتموِّلها وتسلِّحها تشكّل جزءا عضويا من مشروع الثورة الإسلامية الإيرانية او ولاية الفقيه، ما يعني انّ التراجع عن هذا التمدُّد يخالف ويناقض المشروع الديني المؤسِّس للدولة الإيرانية منذ استلامها الحكم في العام 1979، وبالتالي المسألة ليست سياسية لتحتمل التراجع الطوعي او النقاش، إنما دينية في عمقها وجوهرها. وانطلاقاً من هذا الجانب، من الواجب تَجنُّب ثلاث خطايا أساسية:

خطيئة التعامل مع الفرع اللبناني من المشروع الديني الإقليمي الإيراني بشكل تبسيطي ربطاً بالمقولة الخطأ ان كل طائفة في لبنان غامرت وتَفرّدت وعادت وانضَوت تحت سقف الشراكة، وان مصير الشيعية السياسية لن يختلف عن الطوائف الأخرى. وهذا التبسيط هو في غير محلّه وكارثي ويؤدي إلى تخدير أخصام هذا المشروع الذي لن يتوقّف عند حدود قَوننة وضعيته غير الشرعية، والقَوننة مرفوضة، إنما سيواصل سَعيه لإلحاق الدول الموجود فيها بشكل كامل بمركزه الرئيسي في طهران.
خطيئة التعامل مع المشروع الإيراني بأنه قابل للدمج مع الدول والمجتمعات، فإمّا يسيطر عليها وإمّا يُبقيها في الفوضى بانتظار السيطرة عليها، ويستحيل تَصوّر تراجعه إلى ما قبل الثورة الإيرانية. ففي عمق التفكير الثوري الديني الإيراني انّ هذا التمدُّد في الوضعية الشيعية التي ترفع لواء ولاية الفقيه أعادَ تصحيح وضعية تاريخية ولا يمكن التراجع عنه، إنما المطروح المزيد من التغلغل والتوسُّع، فكان يجب التنبُّه باكراً لخطورة هذا المشروع، والعمل على مواجهته مركزياً من جهة، ومواجهة أذرعه من جهة أخرى، وهذا لا يعني انه فات الأوان، إلا انه من الصعوبة إعادة الشرق الأوسط إلى ما قبل العام 1979.

خطيئة الاكتفاء بالرهان على عامل الوقت او المواجهات التقليدية التي تتولاها القوى الوطنية في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، لأنه لا مؤشرات إلى تراجع هذا المشروع، ولا مؤشرات إلى نية واشنطن إسقاطه بالقوة او تخييره بين تغيير دوره من عسكري إلى سياسي وبين إعادته بالقوة إلى داخل حدوده، وبالتالي سيواصل تَحكّمه في الساحات التي يتمدّد داخلها، ومشاريعه غير النظامية أقوى من المكونات الوطنية لأنه يمدّها بالسلاح والمال وقوة إسناد في سياق غرفة مواجهة مركزية، فكيف يمكن مثلاً التغلُّب على «حزب الله» الذي يحظى بالدعم التسليحي او «الحشد الشعبي» والحوثي؟

وانطلاقاً من ان لا أولية أميركية لمواجهة جدية للمشروع الإيراني المزعزع للاستقرار في المنطقة، وانطلاقاً من ان لا قدرة عربية لمواجهة هذا المشروع، وانطلاقاً من انّ مكونات المشروع الإيراني أقوى من القوى الوطنية في الدول العربية، وانطلاقاً من انّ سقف المواجهات المنفصلة التي تخوضها القوى الوطنية هو الصمود في ظل قتال تراجعي. وبالتالي، انطلاقاً من كل ذلك، المطلوب تنظيم المواجهة على أسس جديدة مثلّثة:

أولاً، الانتقال من المواجهة المنفصلة إلى المواجهة الموحدة، أي توحيد الجهود بين القوى الوطنية في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، واعتبارها مواجهة واحدة ومعركة واحدة ضد مشروع واحد يمنع قيام الدولة الوطنية في العواصم العربية التي يسيطر عليها. وبالتالي على طريقة توحيد الساحات المعتمدة من قبل الممانعة من الضروري توحيد الجهود والمواجهة وان يكون رفع الصوت موحّداً لا منفصلاً، وتوحيده يؤدي إلى تزخيم المواجهة وتحسين شروطها.

ثانياً، تشكيل جبهة موحدة تضم القوى المعارضة للمشروع الإيراني في كل من فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن، وتنسيق الخطوات المشتركة، بدءاً من البيانات السياسية التي تهاجم المشروع الإيراني، وصولاً إلى تنظيم زيارات لوفود موحّدة إلى عواصم القرار العربية والغربية رفضاً للمشروع الإيراني الذي يمنع شعوب هذه الدول من ان تنعم باستقرار وازدهار.

ثالثاً، الانتقال من توصيف الأزمات في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن بأنها أزمات محلية، إلى اعتبارها جزءاً من أزمة إقليمية مُسَبِّبها واحد هو إيران، خصوصا انّ واشنطن مثلاً تتعامل مع «حزب الله» بكَونه مشكلة لبنانية و«الحشد الشعبي» بكَونه مشكلة عراقية والحوثي بكَونه مشكلة يمنية و«حماس» بكونها مشكلة فلسطينية والنظام السوري بكونه مشكلة سورية، فيما الحقيقة ان كل هذه المشاكل والأزمات سببها واحد، هو المشروع الإيراني.

فالردّ على وحدة ساحات الممانعة يجب ان يكون بالسلاح نفسه بوحدة ساحات المعارضة في المنطقة، أي توحيد القوى المتضررة من وحدة الساحات التي تمنع قيام الدول الوطنية في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق واليمن.

شارل جبور – الجمهورية

Share.

Powered by WooCommerce

Exit mobile version