ماجدة الرّومي… حِليَةُ الوطن
كتب الدكتور جورج شبلي:
يا سيّدتي،
ليسَتِ الخُطَبُ، وحدَها، تجري، ببعضِ فَقَراتِها، مجرى الأَمثال، فرُبَّ نبرةٍ من ثَغرٍ، هي أَبلَغُ من مطوّلاتِ الألسنةِ الفِصاح. وهكذا، كان كلامُكِ لَونَ المرمر، نَبَّهَ الى أنّ لبنانَ موجود.
لمّا لم يَكنْ ماءُ الوطنيّةِ، معكِ، أبداً، طِيناً، ولا أَسوِرَتُها من غُبار، ولا الرّجاءُ في قيامتِها يَقصُر، هالَ جيلُ الجاهليّة أنّ هناك، بعدُ، كبيرةً لم ينطُقْ فيها اليأس، ولم يتحوّلْ جوهرُ ارتباطِها بالوطنِ حَصًى، بل ظلَّتِ الأرضُ، معها تُؤلَفُ وتُستَطاب، مطمئنّةً، معكِ، الى أنّ ما بقيَ من أُصولِ عِشقِها لم يَخمُدْ أَثرُهُ، وأنّ إِرثَ الوطنِ بِخَير.
لقد رَمَتْ بكِ الأقدارُ، بالأمس، أولئكَ الدّخلاءَ على الوطن، حَمَلَةَ الظّلمة، الباهِتينَ في الخُلُق، النّازِحين عن الكرامة، والذين مُنِيَ بهم الوطنُ وكلاءَ لمؤامرةٍ شوّهَت وجهَ لبنانَ بِنُدوبٍ قاتلة، وضيَّعَت بهاءَه بأصباغٍ مستورَدَةٍ باهتة… فطَفَرَت من سمومِهم قوالبُ الإهانةِ، وتوثَّبَ فَحيحُهم الى كلامٍ ينطقُ بِما بهم.
لماذا ؟ لأنّ سِفرَ جَمالِ لبنانَ اكتملَ بِكِ، هذا اللّبنانُ الذي غَدا، معكِ، عِرقاً نورانيّاً يطولُ مَدُّهُ في خِصْبِ الزّمن. وكان، في صوتِكِ، المدى الذي يهتزُّ له الإصغاء، والمجدَ المُلتَحِفَ بالخلود، والأعجوبةَ التي تَعصى على العَتم. لبنانُ، في صوتِكِ وفي قلبِكِ، ليس كلمة، بل عَظَمَتُها، إنّه، معكِ، مندوبُ النّور، نلمحُهُ في سطورِ صوتِكِ وَمضاً يخترقُ الآفاق، وإِنْ، في بعضِ الأحيانِ، بإرهاق، كما عَبَّرتِ برَنّاتٍ من قلبِكِ، نادرة، ومُحاكةٍ بخيطِ النّبض.
لقد هالَتهم الوقفةُ النبيلةُ، الأنيقة، الصّادقةُ، التي لا تخشى التّحليقَ في الدَلِّ، بِقَلَق، على قضيّةِ لبنانَ، الفردوسِ المفقود، وهي قضيّةٌ حَفَظتِ معجمَها، وانتقَلتِ، فيهِ، من مقطعٍ الى مقطع، جرحاً بالغَ النّزفِ لم يُضَمِّدْهُ وعدٌ، ولا حسابٌ مِمَّن يستظلّونَ رِحابَه، من جنسِ العُقوق. لذلك، لم تَخزِني لسانَكِ عن كوامنِ نفسِ الوطن، تزيلين الأقنعةَ عن الزلّات، والتلوّثِ الانتمائي، والتحوّلِ الى غيرِ هويّة، فكانَ صوتُكِ دعوةً لانتصارِ الولاءِ للبنانَ، على إعدامِه.
يا سيّدتي،
في التّاريخِ لحظاتٌ تُتَرجِمُ لِدُهور، وهكذا، تلكَ الدّمعةُ التي حفرَت في خدِّكِ همسةَ شَوقٍ لبلادِكِ، لا تهدأ، قالَت إنّ قوافلَ الفرحِ نَزَحَت عن وطني، ولم يَعُدْ هنالكَ صِلةٌ بين ربوعِهِ الطَّلقةِ وسواعدِ الخير، وكأنّ مَجدَ ” إِليسّا “، وعنفوانَ ” قدموس “، وفِكرَ ” إقليدِس “، قد غابَت في عَصفٍ قاتِل. لكنّكِ، لم تَقِفي جليديّةَ الصّوت، مؤمنةً بأنّ بارِزَ الجرحِ أَصدَقُ من كامِنِهِ، فحَشَدتِ، في نبرتِكِ، ” رجوليّةً ” كَغَضَبِ فينيقيا، ولا عجب، فمتى لم يكنْ مذهبُكِ مذهبَ الجرأة ؟؟؟
في زمنِ البربر، وهم الجزءُ الأَعوَجُ في ضِلعِ لبنان، أقامَت قوَةُ شغفِكِ بالوطنِ، في قلوبِنا، هيكلاً، لكِ، ليسَ من جنسِ هياكلٍ النّاس، تنسابُ في جَنباتِهِ عذوبةُ صوتِكِ، تُعانِقُ حرارةُ وطنيّتِهِ أحاسيسَنا، فبِتنا، كلَّما استمَعنا إليكِ، يا سيّدتي، يا أجملَ حكايا لبنان، نبحثُ في صوتِكِ عن وطنِنا.