على رغم استمرار المواجهات في الجنوب والتحذيرات الخارجية المتواصلة من انزلاق لبنان الى الحرب، والتحذيرات الداخلية كذلك، فان ثمة اطمئنانا رسميا نسبيا بدأ يسلك طريقه الى ان لبنان لن ينزلق الى الحرب بفعل الحرب الاسرائيلية على غزة .

كان الخطر كبيرا جدا ولا يزال انما بنسبة اقل، ولو ان الغالبية العظمى من اللبنانيين لا تظهر اقتناعا بذلك وتظل تخشى الاسوأ. ولكن وفقاً لمعطيات جادة غير معلنة وليس في مصلحة قوى متعددة اعلانها من ضمن السقوف المرتفعة على المستوى الاقليمي، يعتقد ان خطر انزلاق لبنان الى حرب شاملة قد تراجع الى حد ملموس. فمع دخول هذه الحرب اسبوعها الرابع برز ان اسرائيل لم تعد في وارد اجتياح غزة على نحو تقليدي وفقا لما ارتبطت به التهديدات بتوسيع الحرب من جانب ايران و”حزب الله”. ومردّ هذا الاطمئنان يعود الى الاتصالات الدولية مع اسرائيل التي اكدت للمتصلين بها عدم رغبتها في توسيع الحرب لتتعدى غزة الى لبنان في حال أبقى “حزب الله” اعماله العسكرية من ضمن الحدود التي تشهدها جبهة الجنوب. وفي الوقت الذي نُقل عن الحزب انه لن يطمئن لا الاميركيين ولا سواهم في هذا الاطار، فان ديبلوماسيين يقولون ان معطياتهم تفيد بان هذا الكلام متوقع ولكن امكن تلمّس ان الحزب لن ينجرّ او يُستدرج الى الحرب، وكذلك بالنسبة الى المؤشرات من ايران على رغم تهديداتها.

هل هي الحسابات الداخلية أو هي الحسابات الاقليمية والمتصلة بمدى الدعم الاميركي لاسرائيل والاستعداد للذهاب الى ابعد من هذا الدعم في حال توسع الحرب، هي ما حال دون ذلك؟

في الواقع سرى في الاسبوعين الماضيين وبعد اسبوع على الحرب في غزة ان الحزب لن ينخرط في الحرب على رغم اعتبار كثيرين ان لبنان يشهد حربا حقيقية في الجنوب وتقتصر عليه في الوقت الراهن، وتداعيات الحرب بدأ لبنان يعانيها على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. ولكن تبقى هذه الحرب محدودة، وبنى الجميع تحليلاتهم في الداخل والخارج على انه ليس من مصلحة الحزب، الذي تفاجأ كما تفاجأت ايران وفق كل المعلومات في هذا الاطار بالعملية التي قامت بها حركة “حماس” في 7 تشرين الاول، بان يذهب الى الحرب ويأخذ لبنان اليها. وقد يعود ذلك في شكل اساسي الى انه لن يخاطر بنفسه كما لن يخاطر بمدى سيطرته ونفوذه على لبنان لان الحزب بات يعلم التداعيات في شكل افضل، على غير ما كانت معادلة 2006 التي اختصرها الامين العام للحزب آنذاك بعبارة “لو كنت اعلم”، بان التدخل في الحرب كان سيتسبب بالتدمير الذي عاناه لبنان وخصوصا في مناطق سيطرة الحزب. والايام الاولى من رد فعل اسرائيل بالحرب على غزة والتدمير الهائل الذي الحقته بها قدمت نموذجا لا يمكن تجاهله. لكن في الوقت نفسه وازاء الثقة لدى الغالبية العظمى، لا سيما في الخارج ، بان من الصعب على الحزب ان يخاطر بالذهاب الى الحرب، فان كثيرين لم يودّوا ان يسقطوا الحسابات الايرانية من الاعتبار في الدرجة الاولى، لا سيما ان عملية “حماس” اكتسبت بُعدا اقليميا يتصل بإفشال المفاوضات من اجل التطبيع بين اسرائيل والمملكة العربية السعودية، كما بُعدا دوليا يتصل بإفشال ما كان أُعلِن في نيودلهي على هامش اجتماع “مجموعة العشرين” من ممر مقترح عبر بحر العرب من الهند إلى الإمارات العربية المتحدة، ثم عبر السعودية والأردن وإسرائيل قبل أن يصل إلى أوروبا. فهذا له انعكاساته السلبية على كل من الصين التي تنافس عبر “طريق الحرير” الذي تبني عليه شبكة معقدة ومهمة من العلاقات الشرق الاوسطية، وروسيا التي تستفيد من تحييد كمية كبيرة من السلاح الاميركي الى اسرائيل بدلا من منحه لاوكرانيا، فضلا عن احتمال توريط الولايات المتحدة في حرب شرق اوسطية، كما انعكاساته السلبية على ايران التي من شأن خط الامداد الخليجي مع اوروبا الى الهند ان يعزلها، وكذلك الامر بالنسبة الى التطبيع المحتمل بين اسرائيل والسعودية. وتاليا هناك مصالح تتلاقى وتستفيد من عملية “حماس” ولو انها تُعتبر حتى الآن عملاً يخص الحركة ولاعتبارات تتعلق بالفلسطينيين والصراع مع اسرائيل من دون الذهاب بعيدا في وجود دولة ما وراء التحريض على العمل او تشجيعه في هذا التوقيت بالذات. ففي هذه النقطة لا يذهب احد في اتجاه إضعاف الفلسطينيين حتى لو كانت “حماس” في الواجهة ازاء العنف المتمادي الذي تمارسه اسرائيل وتصيب المدنيين الفلسطينيين في شكل اساسي.

ومن جانب آخر، لم يرغب اصحاب التقويم بان الحزب لن يذهب الى الحرب الواسعة، في الجزم بهذا الاحتمال على نحو كلّي، اذ لم يسقطوا من هذا التقويم حسابات اخرى من بينها الخوف من الخطأ في التقدير تماما كما فعلت اسرائيل في سوء التقدير الذي ارتكبته ازاء كل المعلومات والمؤشرات كما قراءة كل الاشارات في استعدادات “حماس” للعملية العسكرية التي قامت بها ضد اسرائيل. فلا أحد يودّ بعد ذلك ارتكاب الخطأ نفسه ويخشى تفويت دلالات او مؤشرات لم يحسن تقديرها او قراءتها. ومن هنا ابقاء الابواب مفتوحة امام احتمالات ان الحرب قد تتوسع من بوابة لبنان. ولكن تم البناء في الاسبوعين الاخيرين على مدى تدخّل الحزب حيث برز استنتاج مفاده انه يوجه رسائل عن انخراطه مؤديا واجبا تجاه الفلسطينيين ومنسجما مع نفسه في ظل شعار الحزب عن “وحدة الساحات”، ومعبّرا عن استعداداته لفتح جبهة جديدة في وجه اسرائيل منعا لهجومها المرتقب على غزة بعيدا من خطابه المرتفع. وفي النهاية فان الخلاصات الديبلوماسية تقاطعت على اثر التثبت من المعلومات المتوافرة اقله حتى الآن ان الخطر تراجع الى حد ملموس ما لم يحدث شيء جذري يغير هذه المعطيات.

ولكن ليست الحسابات الداخلية ما ينبغي اخذها في الاعتبار، اذ بحسب المعطيات نفسها، لا يجوز تجاهل الاعتبارات الاخرى وابرزها مدى الدعم او “الكارت بلانش” الذي محضته الولايات المتحدة كما الدول الغربية لاسرائيل ووصول حاملة طائرات اميركية مهمة جدا هي “جيرالد فورد” الى المنطقة ورسالة الردع التي وجهتها في هذا الاطار والتي لا يمكن تجاهلها. وقد ساهم الرد الاميركي على استهداف قواعد اميركية في العراق وسوريا والذي وصفته وزارة الدفاع الاميركية بانه رد موضعي لئلا يُفهم التجاهل او عدم الرد تساهلا، في وضع النقاط على الحروف، اقله وفق المعطيات الديبلوماسية والسياسية على حد سواء

Share.

Powered by WooCommerce

Exit mobile version