“عقدة الناجي” على متن طائرة الميدل ايست القادمة الى بيروت
اختبرت “عقدة الناجي” مرتين وأنا في الخارج، المرة الأولى في حرب ٢٠٠٦ والمرة الثانية في حرب ٢٠٢٤. في المرة الأولى كنت انتقل من سويسرا الى فرنسا، وفي المرة الثانية كنت انتقل من أميركا الى فرنسا أيضاً. وفي المرتين كان عليّ أن أؤجل عودتي الى لبنان، مما سمح لي باختبار “عقدة الناجي”، أي هذا الشعور الذي يرافقك عندما تكون انت في أمان فيما شعبك يعيش تحت الخطر الداهم.
لا تستطيع أنت “الناجي” عيش يومك كسائح، مستمتعاً بكل جديد وجميل، غير مبالٍ بآلام شعبك المهجّر أو تحت القصف. ليس نوعاً من الإحساس بالذنب هو وحده ما يمنعك أنت الذي تعودت أن تكون لك كلمة في ما يحدث، من خلال إبداء الرأي واتخاذ الموقف، وحتى التحرك على الأرض. فأنت تريد العودة والمشاركة، أولاً في تقديم أي مساعدة ممكنة للمتضررين، وثانياً في رفض الحرب.
لم أنجُ فقط من حرب ٢٠٠٦، ولا من حرب ٢٠٢٤ حتى الآن، بل طيلة حرب ١٩٧٥. كان مكان عملي على خطوط التماس وكنت دائم التنقل بين شرقي وغربي بيروت بحكم مسؤوليتي كمستشار للاتحاد العمالي العام، حيث كان عليّ أن أرافق قيادة الاتحاد في محاولاتها الدؤوبة للوصول إلى قرارات تتفق عليها القيادات في المنطقتين، وتحافظ على وحدة الاتحاد العمالي العام. كما أنني وبدوري، حافظت خلال الحرب على علاقاتي بأصدقائي من الطوائف الأخرى، مما دفعني الى عدم التوقف عن زيارتهم في أماكن عيشهم.
عند عودتي من العمل كان عليّ أن أقود سيارتي من بيروت الى جونيه، على الطريق العام، حيث كانت تتساقط القذائف بشكل مستمر، عندما يجن القصف العشوائي الذي أصبح في فترة طويلة من الحرب، الممارسة المفضلة عند الميليشيات بعد أن “طهّرت” مناطقها. وقد نجوت مرات عديدة من قصف طاول أماكن قريبة من السيارة التي كنت أقودها. واذا كان القصف العشوائي قد طاول المنطقة التي أعيش فيها، الا أن هذه المنطقة بقيت بمنأى عن المعارك المباشرة إلاّ في فترة تقاتل “الإخوة” عون وجعجع. وانتهت الحرب وكنت في عداد الناجين.
لكني لم أختبر “عقدة الناجي” خلال الحرب الأهلية التي شارك فيها، المنظمات الفلسطينية والنظام السوري، رغم وقوع الكثير من الضحايا خلال الحرب. ربما لأنني كنت في عداد الذين قاوموا الحرب من خلال الكتابة وأعمال احتجاج على الأرض. أي أنني في حينه نجوت من العقدة، لأنني كنت من جهة أواجه الحرب ومن جهة ثانية أتحمل مخاطر هذه المواجهة. وفي هذه الحالة لا عقدة، لا تجاه حرب كنت ضدها ولا أتشارك مع غيري في تأييدها أو المشاركة فيها، ولا تجاه نجاتي التي حصلت بالصدفة وأنا أواجه مخاطر الحرب.
تغيّر شعوري إبان حربي ٢٠٠٦ و٢٠٢٤، فقد تأرجحت مشاعري بين “عقدة الناجي” والنجاة من العقدة. السبب الظاهر لـ”عقدة الناجي”، هو وجودي في الخارج في وقت كان شعبي ووطني تحت النيران الاسرائيلية. في ٢٠٠٦ كنت أسير العقدة بشكل كامل، في حين أنني في سنة ٢٠٢٤، حاولت أن أقاوم هذه العقدة.
في الحربين، لم أكن أؤيد، لا خطف “حزب الله” لجنديين اسرائيليين سنة ٢٠٠٦ مما خلق حجة لإسرائيل للاعتداء عليه وعلى الشعب اللبناني، ولا إطلاق “حزب الله” حرب مساندة غزة، مما سهّل على نتنياهو التحجج بها لشن حرب تدميرية وحشية على الحزب وعلى البيئة الشيعية بشكل خاص. ومنذ ٨ تشرين الاول ٢٠٢٣، وأنا أنتقد “حزب الله” في العديد من المقالات لدخوله في هذه الحرب الأخيرة محذراً مراراً وتكراراً مما وصلنا اليه.
اذاً وُجدت في الخارج إبان حرب فعلت كل ما يلزم، من موقعي الفكري، لإقناع المعنيين بتفاديها، فلماذا لاحقتني “عقدة الناجي” ونغّصت علي سعادة العيش بأمان، في بلدان أتشارك معها ثقافة الحرية والديمقراطية وحقوق الانسان؟
قاومت هذه “العقدة”، محاولاً أخذ مسافة فكرية وعاطفية مما يجري في لبنان، والانخراط قدر المستطاع في الحياة اليومية في أميركا وفرنسا، بمعية أصدقاء لبنانيين وأجانب. كنت أنجو من “العقدة”، لساعات أحياناً أو ليوم أو يومين في أحيان أخرى، ومن ثم كانت تعود وتتملكني. الكتابة عن الوضع ونشر ما كتبت، كان يريحني أيضاً لبعض الوقت، لكن دون أن يفك عن عنقي خناق “العقدة”.
“العقدة” لا تعيشها فقط لأنك في أمان، فيما شعبك يتعرض للقتل والنزوح. بل هي تتجاوز ظروف الحرب، لتسألك بعنف عن الاسباب التي تحول دون تمتع شعبك بخيرات هذا النمو الاقتصادي والسياسي والثقافي، الذي تعايشه في بلدان غربتك. فينتابك الغضب، الذي يدفع بك مجددا الى الرغبة في العودة إلى مجتمعك والمحاولة من جديد، رغم كل النكسات والإحباطات. لماذا هذه الشعوب وليس شعبي أيضاً، ولماذا أنا هنا مع الذين لا يحتاجون إلي، بدل أن أعود إلى هناك، حيث البؤس الاقتصادي والسياسي والثقافي، ولكن أيضا حيث ولدت وترعرعت وأحببت وأنجبت أولادا ونسجت صداقات وشاركت في نضالات؟
نعم “عقدة الناجي” تحتضن شعوراً عميقاً بالانتماء الوطني، أو بالأحرى بالانتماء الى شعب، رغم عقيدتك الانسانية الاممية. ويأخذ هذا الشعور بالانتماء الوطني طابعاً حاداً في أيّ حرب اسرائيلية على لبنان، يؤيدها ضمنياً، البلدان التي توفر لك الأمان، في وقت تغطي فيه الإجرام الاسرائيلي الذي يطال شعبك.
لا مهرب من العودة إلى بلادك حيث الحرب، ليس للتعرض للخطر مثلك مثل باقي مواطنيك، بل لتستكمل نقدك للحرب في كافة أشكالها، وتفتش مع مواطنيك عن نظام سياسي لا يقحم بلادك في حرب أخرى، ويمدها في الآن نفسه بالأدوات اللازمة، الدبلوماسية والعسكرية، لحماية نفسها من إجرام العدو الاسرائيلي.
أفكر في كل ذلك وأكتب وانا عائد الى لبنان في طائرة الميدل ايست التي ستحلق في الأجواء اللبنانية وتحط في مطار رفيق الحريري الدولي في ظل العدوان الاسرائيلي المستمر على لبنان وعلى الضاحية الجنوبية لبيروت بشكل خاص. انه تحد شخصي عملي ل”عقدة الناجي”، وربما للتحرر من وطأتها النفسية، ناجياً بالفعل، ام قتيلا بصاروخ اسرائيلي.
وصلت إلى منزلي سالماً، ناجياً مرة أخرى. لكني قبل ان أضع رأسي على الوسادة في منطقة تُعتبر “ناجية”، قرأت الخبر التالي: “نزَحت عائلة من آل نجدي، من بلدة صريفا الجنوبية إلى منطقة النويري في بيروت، هرباً من القصف الإسرائيلي العنيف، فلحقتها الغارات إلى قلب العاصمة. عائلة بأكملها انتُشلت من تحت أنقاض المبنى المستهدَف في النويري، وباتت في عداد الشهداء بعدما شنّ الطيران الحربي غارات عنيفة على بيروت، روّعت السكّان.”
مناطق الشيعة هي مناطق “غير ناجية” بحكم قرار اسرائيل بضرب بيئة “حزب الله”. ولا شك ان سكان هذه المناطق سيعانون من “عقدة غير الناجي”. سكان مناطق “عقدة غير الناجي” عليهم أن يتعايشوا مع سكان مناطق “عقدة الناجي”، ومعاً عليهم ان يعيدوا بناء وطنهم المهدّم بمؤسساته وابنيته. فهل يمكن ان ينجو وطن قائم على عقد شعبه المتناقضة والمتعلقة بالحياة والموت؟
المصدر: النهار